الأسطورة والسياسة

يونس صالح:

الأسطورة عند علماء الاجتماع تتمثل في سرد يتعلق بالماضي (في سالف العصر والأوان.. كان يا ما كان)، ولكنه يحتفظ في الحاضر بقيمة تفسيرية بالغة الأهمية بقدر ما يوضح ويعلل بعض الانقلابات في مصير الإنسان أو في بعض أشكال التنظيم الاجتماعي.

إن الأسطورة تروي تاريخاً مقدساً، إنها تسرد واقعة جرت في الزمن السحيق القدم، زمن البدايات الخرافي. وبعبارة أخرى تروي الأسطورة كيف جاء واقعٌ ما إلى الوجود سواء أكان هذا الواقع كلياً، الكون، أم مجرد جزء ليس غير: جزيرة، نوع من النبات، سلوك إنساني وغير ذلك.. وعند آخرين يختلط مفهوم الأسطورة بمفهوم الخداع، ذلك أن الأسطورة، باعتبارها وهماً أو توهماً، تبدل معطيات الملاحظة التجريبية، وتتعارض مع قواعد الاستدلال المنطقي، وبهذا تقوم كحاجز بين حقيقة الواقع ومقتضيات المعرفة. وعند آخرين غيرهم تمثل الأسطورة نداء إلى الحركة، وحثاً على العمل، وهي تبدو في نهاية المطاف حافزاً لطاقات ذات قوة استثنائية، وهذه الأبعاد الثلاثة لكل أسطورة بوجه عام نجدها ماثلة كذلك في كل أسطورة سياسية. (إن الأسطورة السياسية هي حقاً تلفيق أو تشويه أو تفسير للواقع يمكن الطعن فيه موضوعياً، غير أن من الصحيح أنها كسرد خرافي، تؤدي أيضاً وظيفة تفسيرية، فتقدم عدداً من المفاتيح لفهم الحاضر، وتشكل شيفرة رموز يمكن للفوضى المحيرة للوقائع والأحداث أن تبدو متسقة من خلالها، كما أن من الصحيح كذلك أن هذا الدور التفسيري يتضاعف بدور تعبوي بفضل كل ما تقوم بتوصيله من دينامية نبوئية، تشغل الأسطورة مكاناً رئيسياً بين أسباب التحركات السياسية والثورات الاجتماعية وغيرها).

والأسطورة كالحلم لا يمكن حصرها أو تحديدها أو حبسها داخل حدود صارمة، فذلك لا يؤدي إلا إلى تشويه الأسطورة وإفقارها وتجريدها من ثرائها وتعقيدها.

إن هذه السيولة الجوهرية للأسطورة بوجه عام هي أيضاً سمة أكيدة للأسطورة السياسية التي تتميز بشبكة قوية مرهفة من الصلات التكاملية: (فالحنين إلى الماضي، إلى العصور الذهبية المنصرمة يصب عادة في الانتظار والتبشير النبوئي ببعث تلك العصور).. وبالمقابل فمن النادر حقاً ألا تقوم الحركات الخلاصية الثورية بإثراء رؤيتها للمستقبل بصور أو إحالات مستقاة من الماضي، على أن الصلات بين سمات الأساطير السياسية لا تتمثل في صلات التكامل فحسب، فهناك في كثير من الأحيان صلات تناقض، فالأسطورة مزدوجة (فالبيت على سبيل المثال هو حلم المأوى والتلاقي والأمان، ولكن يمكن أن يغدو صورة لزنزانة، ورمزاً للاضطهاد في السجن، ورمز الدفن وحتى رمز القبر).

والأسطورة السياسية لا تخرج عن هذه القاعدة، قاعدة انقلاب الأسطورة إلى العكس.

والقرين الخرافي الذي يصاحب دائماً تقريباً وجود أو ذكرى البطل التاريخي شاهد على تلك الظاهرة.

إن الإجلال أو اللعن يتغذّيان على الوقائع نفسها وينموان انطلاقاً من الحبكة نفسها، فبين صورة نابليون العظيم على سبيل المثال وصورته كغول جزيرة كورسيكا لا تعارض سوى من زاوية الرؤية.. وسواء أكان مكللاً بهال المجد أم بسحب عاصفة مكفهرة فإننا نعثر في نهاية المطاف على الوجه الواحد نفسه.

إن غرابة الأصول وسرعة الصعود والإرادة المسيطرة وطبيعة الانتصارات وضخامة الكوارث، وكل ما يساهم في صنع صورة العظمة، يشكل في الحالة الأخرى وصمة عار.

كذلك فإن أساطير العصر الذهبي تحيلك دوماً إلى (أيام زمان)، وهي أزمنة عاشها الناس فعلاً، وهي باقية في ذاكرة الجماعة المعينة.. وكذلك في الذاكرة الفردية. فنحن إذاً إزاء صور لماضٍ تحول إلى أسطورة، ورؤى لحاضر أو لمستقبل وفقاً لما كان أو لما يفترض أنه كان في الماضي.

ومع العصر الحديث، مع اتجاه الروح الاجتماعية إلى الانفجار إلى شظايا، وتآكل التضامنات القديمة، وتدهور الأشكال القديمة للحياة الجماعية، تتسع الهوة بلا انقطاع بين مختلف المجموعات الاجتماعية، وتنغلق كل مجموعة منها على نفسها، وعلى مصالحها، وعلى آرائها المسبقة، وعلى أساليب حياتها وفكرها، تأتي التغيرات التي تقلب أوضاع الأشكال التقليدية للعمل البشري في اتجاه قدوم حضارة جديدة لا يكون فيها الشغيل سوى ترس منعزل.

وإلى جانب ذلك هناك (الفجوة المتزايدة العمق، والقائمة منذ قدوم عصر التنوير بين ما يتعلق بنسق المعرفة العلمية وما يتعلق بعالم صبوات الإيمان)، ويسود شعور قوي بالتوجس إزاء المواجهة بين نسقين محددين ومتعارضين من القيم سرعان ما يتجسدان في موقفين متنافرين.

وبعد أن تم استعراض الخطوط الرئيسية للأسطورة السياسية، يحق التساؤل عن مغزى ذلك بالنسبة لنا.

يشير بعض علماء الاجتماع إلى أن ثقافتنا تنزع إلى الانطواء على النفس ورفض الآخر عموماً، وهي عاجزة عن تجاوز الأسطورة السياسية الأصلية للعصر الذهبي والمؤامرة والمخلص المنقذ، وبالتالي فإن سمات الأسطورة السياسية تلك تنطبق بصور عامة على ثقافتنا، وهو انطباق ينبغي بحث مداه واستقصاء خصوصياته، وإيجاد كوة للانفتاح على الفضاء الرحب واسع الأرجاء.

 

العدد 1104 - 24/4/2024