شعوب أوربا تدفع ثمن تبعية حكامها

د. صياح فرحان عزام:

في زيارته الأخيرة للصين، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: (إنه يجب على الأوربيين ألا يكونوا أتباعاً للولايات المتحدة)، في إشارة واضحة منه إلى الصراع الأمريكي – الصيني حول تايوان، وهو يقصد- كما أكد محللون سياسيون تابعوا الزيارة وتحدثوا عنها- يقصد أن الأزمة التايوانية ليست أوربية حتى تكون أوربا جزءاً منها.

هذا الكلام يميل إلى الحقيقة والمنطق، إلا أنه يحتاج إلى تجسيده على أرض الواقع عبر سياسة أوربية مستقلة عن سياسة الإدارات الأمريكية تجنبها كوارث السياسة الأمريكية التي ألمّت بأوربا منذ الحرب الأمريكية في أفغانستان واحتلالها بذريعة محاربة تنظيم (ابن لادن)، ثم احتلال العراق بذريعة كاذبة (وجود أسلحة كيميائية في العراق).. وبالطبع دفع بعض دول أوربا التي شاركت أمريكا في حربيها المذكورتين ثمناً باهظاً من قتلى وجرحى وخسائر مادية فادحة.

ولكن الدول الأوربية الكبرى أو لنقل الرئيسية تجاهلت ذلك، وهرولت نحو واشنطن للاشتراك في الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ ما يزيد على العام، والتي اختلقتها الإدارة الأمريكية وخططت لها منذ عام 2014 لاستنزاف روسيا، ومنعها من أن تستعيد مكانتها الدولية، ولتبقى أمريكا تتربع على عرش قيادة العالم والتحكم به حفاظاً على مصالحها الخاصة دون أي منافس أو شريك في صنع القرار الدولي.

ولكن من الذي دفع ثمن هذا التورط الأوربي أو الانجرار إلى هذه الحرب؟

لا شك في أن الشعوب الأوربية هي التي دفعت الثمن الذي كان بالإمكان تجنبه لو كان القادة الأوربيون يريدون مصالح شعوبهم أولاً، ولو كانوا ثانياً يطمحون إلى اتباع سياسة أوربية مستقلة تراعي مصالح شعوبهم، ولا تكون (ذيلاً) لسياسات واشنطن.

لولا هذه التبعية المذلّة لما عانت غالبية الدول الأوربية مما تعانيه من اضطرابات اجتماعية وسياسية تعكس الاستياء الشعبي الأوربي، من زجها في حرب ليست حربها، إضافة إلى المعاناة من أزمات اقتصادية خانقة وكبرى (أزمة الطاقة وغلاء أسعارها، والتضخم المالي، وهدر الأموال لتمويل هذه الحرب الأمريكية بمليارات الدولارات على حساب الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية التي غُيّبت، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية بشكل أرهق المواطن الأوربي).. وقد رصد موقع (يورو نيوز) التداعيات والنتائج السلبية وحجم الخسائر الباهظة اقتصادياً ومالياً في كل دولة من دول أوربا، وخاصة في فرنسا وألمانيا وإسبانيا وبلجيكا والدانمارك وبريطانيا والنمسا والسويد والبرتغال وبولندا، وما أدى ذلك إلى موجة واسعة من الإضرابات الكبيرة والاحتجاجات شملت قطاعات الصناعة والتعليم والصحة والنقل، إضافة إلى التظاهرات المتواصلة في فرنسا ضد قانون التقاعد، والتي تخللتها صدامات دامية بين المتظاهرين وقوات الشرطة والأمن.. كذلك شهدت ألمانيا إضرابات وصفت بأنها الأضخم منذ عقود بمشاركة أكثر من أربعين ألفاً من قطاع النقل أدت إلى شلل تام في عدة مطارات ومحطات سكك الحديد، في حين شملت إضرابات بريطانيا قطاعات البريد والنقل والتمريض والتعليم والأطباء وسكك الحديد، وهي إضرابات كبيرة وغير مسبوقة في تاريخ بريطانيا التي تعاني ركوداً وتضخماً كبيراً وصل إلى أكثر من 15% حسب التقديرات، وفي اليونان اندلعت تظاهرات ضخمة في شهر آذار الماضي في العاصمة ومدن أخرى مطالبة بتحسين ظروف العمل وزيادة الأجور.

ولكن كل الخطط الحكومية الأوربية فشلت في لجم الأزمات الاقتصادية المستفحلة، لأن الرتق اتسع على الراتق، كما يقال.

باختصار.. لم تكن أوربا مضطرة للتورط في الحرب الأوكرانية التي خططت لها واشنطن منذ عام 2014 لاستنزاف روسيا والدفاع عن النظام الأحادي القطبية الذي تتزعمه.

العدد 1105 - 01/5/2024