محنٌ متتالية

وعد حسون نصر:

تتالت المحن وعمّ الصمت. إنها بلادي، تلك البقعة الجغرافية على سطح الكرة الأرضية، التي تدعى سورية، أقدم حضارة في أرض الفينيق، عاصمتها أول موطن للإنسان، بمناخها الجميل ذي الخريف الشاحب بحفيف أوارق شجر الحنين، والشتاء الماطر والمثلج العاصف والهادئ، وربيعها المعتدل الدافئ بسحابة القطن البيضاء والأمطار المجنونة تتأرجح مع نسماته، والصيف الفرح ببحره وشاطئه وخيوط شمسه وحقول قمحه.

سورية صاحبة أربعة فصول في عام واحد، أي زراعة أنواع مختلفة بتنوّع تلك الفصول من الثمار والخضار والبقول، سهلٌ وجبلٌ وبحر، أي سياحة. نفطٌ وفحمٌ طبيعي، أي حياة صناعية وإنتاج. إذاً لماذا كل هذا القهر؟ لماذا كل هذا الشحّ؟

بدأ قهرنا في أزمة ولدت عام ألفين وأحد عشر، ولم تنتهِ بكارثة في فجر السادس من شباط من عام ألفين وثلاثة وعشرين، وبين التاريخين تتالت المحن علينا، هُجِّرَ أغلب السوريين من بيوتهم، نزحت مدن بأكملها، مات أطفال ونساء وشيّاب وشباب، تعرّت الضمائر والأخلاق، سُلِبَتْ خيرات وخيرات، وخرجت مدنٌ كاملة عن السيطرة حتى بتنا نحتاج لوسيطٍ كي نحضن من حضننا رحمهن ومن حُضنا معهن في رحم واحد!

ما ذقناه من عذاب نحن السوريين لا أظن أن شعباً تذوّقه، دفعنا أثماناً من أعمارنا، من دمائنا، وبعد أن أسعفتنا الحياة بقليلٍ من الأمل، اهتزّت الأرض تحتنا، وبتنا نراجع صور الذكريات تارةً، نقول هل عادت السماء تمطر حِمَمَ الربيع، وتارةً نُردّد الابتهالات قرباناً لله وتضرعاً علّه يُخفّف غضبه على ما اقترفناه بحق بعضنا من ظلم، وتارة أخرى نقول إنها نهاية العالم، هُدِمَ السدُّ وبُسطت الجنة للناسكين، والنار أُضرمت للفاسقين!

يا الله: هل كل السوريين من أهل النار؟ شقَّ الفجر صباحه الأسود على آلاف ضحايا الزلزال، وصوت النحيب ملأ سماء بلادي التي لم تتوقف لمدة يومين لا ليل ولا نهار، وهي تبكي علينا، وتعصف رياح آهاتها من شدّة الألم. دولٌ توحّدت لتنطق باسمنا، وحافلات نعّمت طريق البرِّ محمّلة بالاعتذارات على سنوات قهر أغرقونا فيها بعقوبات قاسية. طائرات اخترقت جوّنا لتنشر باقات حبّها لشعبٍ لا ذنب له إلاّ أنه سوري ولد في بلد عربي كُتِبَ عليه أن يبقى منكوباً، والآن يرضخ تحت رحمة الفساد! فمن يرحمنا، الطبيعة أم العقوبات؟

عُدنا لنحيا على المعونات، نعمل بثمن رغيف الخبز، تخلّينا عن الكثير تحت مُسمّى الكماليات على الرغم من أن غالبيتها أساسيات كالمازوت والغاز والضوء واللباس واللحوم، أغلبنا الآن يحيا في العراء في خيم اللجوء داخل البلاد وخارجها، من نجا من حممِ غضب الأزمة مات تحت ركام الكارثة، ومن نجا من الركام هرع خالعاً النعل للعراء، ذاق الذلَّ المغمّس بالسكر تحت مُسمّى معونات، ومن نجا من كليهما أغرقته الحكومة برفع الأسعار دون مبالاة لحالته النفسية بسبب الكوارث والهزّات، ومن نجا تكفّل به تاجرٌ مُتمرّس لا يأبه ضميره للاتجار بالناس، وشعاره كلما كثرت الأشلاء زاد بيعي من الأكفان!

هذا حالنا باختصار منذ ألفين وأحد عشر حتى الآن، لدينا كل شيء ولا شيء موجود، حتى الناجي الأخير في بلدي زعزعته الطبيعة الغاضبة.

العدد 1105 - 01/5/2024