(أزمة) هوية الاقتصاد الوطني.. مساهمة في الملف الذي نشرته مجلة البعث اﻻسبوعي بتاريخ 26 تشرين اﻻول 2022 حول هوية اﻻقتصاد السوري.

بشار المنيّر*:

كانت هوية الاقتصاد الوطني وارتباطها بالسياسات الاقتصادية المتبعة على أرض الواقع، ومازالت، لغزاً محيّراً لخبراء الاقتصاد في البلاد.

لن نرجع كثيراُ إلى ما بعد الاستقلال، وكيف رُسمت السياسات الاقتصادية في سورية، لكننا نكتفي بالإشارة إلى أن الدستور الذي كان سارياً حتى عام 2012، حدّد هوية الاقتصاد السوري بأنه (اشتراكي مخطّط)، في الوقت الذي كان فيه القطاع الخاص يساهم بما نسبته 68% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، وهُمّش فيه منذ عام 2000، القطاع العام الصناعي، وجرى فيه أيضاً اعتماد (اقتصاد السوق الاجتماعي) ونمت فيه الثروات لدى فئة قليلة من المواطنين!!

لقد برهنت تداعيات الأزمة التي تمرّ بها بلادنا، وكذلك انعكاساتها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كم كان خاطئاً.. بل كارثياً، ذلك التهميش.. والتجاهل، ثمّ العداء ومحاولات الإلغاء، التي مورست ضدّ القطاع العام بمختلف مؤسساته الصناعية والخدمية والاستراتيجية في سورية، منذ عام 2000. كما برهنت كم كانت مجحفة بحقّ الوطن والشعب، الرؤية الاقتصادية لمهندسي الاقتصاد السوري السابقين، الذين رهنوا الاقتصاد الوطني لـ(عدالة) السوق الحرّ، وهم يعلمون قبل غيرهم أن آليات السوق لم تكن عادلة في يوم من الأيام، رغم أن الدستور الذي كان سارياً ينص على الاقتصاد (الاشتراكي المخطط)!

في الدستور الساري حالياً، الذي اعتُمد بعد استفتاء شعبي في عام 2012، حدّدت المادة 13 هوية الاقتصاد السوري:

(يقوم الاقتصاد الوطني على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشة الفرد وتوفير فرص العمل).

(تهدف السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد، عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة).

ما الذي حدث بعد ذلك؟

دخلت سورية سنوات الجمر بعد الأزمة ومحاولة الغزو الإرهابي، وحصار اقتصادي دولي جائر بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وتسبّبت أيدي الإرهاب بحرق وسرقة المصانع وجميع القطاعات المنتجة الأخرى، وتدمير البنية التحتية، وأدّت إلى نزوح الرساميل الوطنية المنتجة، والأيدي العاملة إلى الخارج، وخسارة الثروات الوطنية، وارتفعت مؤشرات الفقر والبطالة، وتراجعت إيرادات الخزينة العامة إلى مستويات قياسية، وانعكس كل ذلك على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ووصلت معاناة المواطنين المعيشية إلى مستويات كارثية، وتراجعت الحكومات شيئاً فشيئاً عن دعم الفئات الفقيرة والمتوسطة، وبدلاً من (التنمية المستدامة، والنمو)، تسيّد اقتصاد السوق الحرّ المشوّه.. المطعّم بالأسواق السوداء، دون قرار رسمي، لكن سياسات الحكومات المتعاقبة كانت تسعى إلى هذا التوجه.

فعن أيّ هوية للاقتصاد السوري نتحدث؟!

في الندوة التي أدارتها بكفاءة الدكتورة رشا سيروب في ثلاثاء جمعية العلوم الاقتصادية، وضعت مؤشرات اقتصادية للاقتصادات الاشتراكية والرأسمالية والمختلطة، واستعرضت أفضليات كلٍّ منها في الجانب الاقتصادي، وظهر جليّاً من خلال هذه المؤشرات تأثيرات فقدان الهوية، وتخبّط السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وطرحت في النهاية اقتراحاتها لـ(هويّة) الاقتصاد السوري في المرحلة القادمة، وهو التوجه نحو الاقتصاد الرأسمالي الموجّه من قبل الدولة.

ومن خلال ما أشرتُ إليه من فقدان هوية الاقتصاد الوطني، بسبب عدم تطبيق ما جاء في الدستور، طرحت بمداخلتي في الحوار الذي جرى بعد محاضرة الدكتورة رشا سيروب، أن الحديث عن هوية الاقتصاد السوري في المستقبل يُعدّ حسب اعتقادي أقرب إلى المغامرة، فقبل نجاح الجهود السياسية لحل الأزمة السورية، وقبل استرجاع سيادة الدولة على جميع المناطق والثروات السورية، وقبل إلغاء الحصار والعقوبات، لا يمكن الحديث عن هوية لاقتصادنا الوطني.

في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.. والإنسانية التي نشأت بعد أزمتنا، وفي ظل دخول نحو 85% من المواطنين السوريين قسراً إلى خانة الفقر، لا أعتقد أن الاقتصاد الرأسمالي، حتى وإن كان موجّهاً من قبل الدولة، سينهض بالاقتصاد السوري، وسيلبّي الحاجات الاجتماعية والمعيشية للمواطنين.

لقد قدّمت الدكتورة رشا سيروب اقتراحها، بالاستناد إلى مبررات اقتصادية بحتة، رغم تطرّقها إلى بعض المؤشرات الاجتماعية.

 

واقتراحي هنا، أن تُحدّد هوية الاقتصاد السوري ضمن حوار سوري_ سوري شامل، يتم التوافق فيه بين جميع الأطياف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإثنية، وتحدَّد فيه ملامح سورية المستقبل بالاستناد إلى الواقع الراهن للاقتصاد الوطني، والأوضاع المعيشية الراهنة للمواطنين السوريين، وكذلك أن يؤخذ بالحسبان الاستحقاقُ الأبرز.. القادم، وهو استحقاق إعادة الإعمار.

 

عضو جمعية العلوم الاقتصادية /  رئيس تحرير صحيفة (النور) السورية

 

العدد 1107 - 22/5/2024