الآمال والأحلام.. من تحرير جولاننا إلى الرّغيف

عبّاس حيّروقة:

لم تكن رحلتي أواخر الشّهر الماضي – آب – إلى القنيطرة كغيرها من الرّحلات إلى باقي مدن ومحافظات سوريّتنا النّور، لأسباب عدّة، رغم أنّني سافرت بهدف المشاركة في فعّاليّات ثقافية لا تختلف كثيراً عن سابقاتها من حيث الاحتفاء والألق والمتعة.

رحلتي هذه إلى القنيطرة كان لها في داخلي غير معنى، إذ هي المرة الأولى التي أزور هذه المحافظة.. أقف على ترابها وأتأمل بمحبّة قاطنيها.. أتهجّى بدهشة قراها و هضابها وتفاحها.

رحلة كان لها في داخلي غير معنى، وكيف لا يكون ووجهتي الجولان بكل ما يعنيه لنا كسوريّين، لا سيّما أننا من جيل تربى تربية وطنية استثنائية.. تشرّبنا معاني الانتماء والقيم من خلال الشّعارات الكبيرة جداً والعريضة جداً والتي كان لها الدّور الكبير في أن نحيا على الأمل.. على الحلم الجميل.. عيوننا مشدودة بكل اعتزاز تجاه فلسطين أولاً ومن ثم– الجولان و لواء إسكندرون.. انتصرنا لكل قضايا الشّعوب المقهورة وثوراتها ضد المحتل.. واحتفلنا باستقلالها وغنّينا لها (الجزائر – اليمن – السّودان).

كانت ألف باء صباحاتنا فلسطين داري – أخي جاوز الظّالمون المدى، فحقّ الجهاد وحق الفدا –..الخ هتفنا ملء حناجرنا لفلسطين، للجنوب اللبناني، لجولاننا وللواء إسكندرون..  ردّدنا ما ردّدته آلاف الحناجر:

غابت شمس الحق.. وصار الفجر غروب

وصدر الشّرق انشقّ.. تسكّرت الدّروب

منرفض نحنا نموت..  قولولن رح نبقى

أرضك والبيوت.. والشّعب العم يشقى

هو إلنا يا جنوب.. يا حبيبي يا جنوب

أعلم علم اليقين أن كلامي هذا سيثير سخريّة البعض، لزعمه موات كل أبجديات مرحلة النضال من أجل تحرير أرضنا المغتصبة وشعاراتها وأناشيدها.. وأنه تم جرّنا إلى أزمنة لم تكن من مفرداتنا أو في حساباتنا.. أزمنة النضال الحقيقي في سبيل تأمين الرّغيف والماء والكهرباء وزجاجة الدواء.. أي بمعنى (خلّينا نشبع الأكل بعدين حرّرولنا القدس والجولان ولواء إسكندرون)!

أعود وأقول: رحلتي إلى القنيطرة أصبح لها غير معنى في روحي وتفكيري، إذ طرحت كمّاً كبيراً من أسئلة القلق.. الانتماء.. العقل..  نعم، رحلة شابها الكثير من مشاعر الفرح والاعتزاز، كيف لا وأنا في عين التّينة أطل على مجدل شمس وبقعاتا وعين قنية!

كيف لا وأنا على مرمى حجر أيضاً من فلسطين المحتلة.. على مرمى حجر من مزارع شبعا اللبنانية..  مشاعر اختلط فيها كل شيء وحاولت أن أحرر بعضها من بعض قلق.. انتماء.. خيبة.. تشاؤم.. استياء.. تحدّي..  دخلنا القنيطرة المحررة وشهدنا ما شهدناه من دمار ممنهج قام به الكيان الصّهيوني لهذه المدينة قُبيل انسحابه منها.

لم أتفاجأ أبداً بحجم الدّمار، إذ هذه الصّور محفوظة بذاكرتي ممّا كانت تتناقله المحطات المحلية ومما قرأناه وشاهدناه في صدر كتبنا المدرسية، هذه هي إذاً القنيطرة.. وهذا هو جولاننا الحبيب!

يالجولان وياللي ما تهون علينا

ردّادينك من إيد المحتل انطرينا

يا ألله كم هتفنا ملء جوارحنا بهذه الأغنية وعيوننا تجاه علمنا العربيّ السّوري وهو يرفرف عالياً..  وقفنا نرقب ونتأمل مجدل شمس من على منصة حفظت تفاصيلها من خلال المهرجانات التي كانت تقيمها غير فعالية رسمية وأهلية هناك.. منصة تطل على بيوت السّوريين هناك.. على نوافذها وأبوابها وشوارعها.. على حدائقها وعصافيرها.. وقفنا نرقب بكثير من الخيبة والعجز والخجل من أنفسنا لأننا ومن عقود نردّد ونعد الجولان بـ

(ردّادينك من ايد المحتل انطرينا)،

والجولان ينتظرنا كما وعدناه ولكننا لم نكن أوفياء لوعودنا.. ورغم كل هذا وذاك سنبقى ننشد له:

مجدل شمس ويا عزّتنا

وأخبارك ياما هزّتنا

وياللي مارضيتي الهويّة

إلا عربية سورية

كانت رحلتي إلى القنيطرة بدعوة من قيادة اتحاد شبيبة الثّورة للمشاركة في تحكيم المرحلة النّهائية من المسابقة الشّعرية المركزية، التي شارك فيها ما يقارب المئة شاب وشابة من جميع المحافظات بمراحلهم التعليمية الثّلاث (تعليم أساسي – ثانوي – سكني).

لا شك أنّ ثمّة رسائل أرادت قيادة الاتحاد توجيهها، الرّسالة الأولى:

لأبنائنا الطّلاب قائلة لهم هذا هو العدو الأول والأساس الذي احتل أرضنا ولا بد لنا من أن نعمل وفي كل حين ما استطعنا حتى تحريرها.. وليكن جولاننا في ذاكرة الأبناء كما كان ومازال وسيبقى في ذاكرتنا عربيّاّ سوريّاً، لا سيّما أنّ شبابنا غنّوا وأنشدوا، على مسمع ومرأى العدو، الأغاني للجولان ولفلسطين.

والرسالة الثانية:

أرادت قيادة الاتحاد توجيهها للمحتل الغاصب مفادها أنّ ذاكرة الشّعوب لا تهرم ولا تشيخ، وكنا ومازلنا وسنبقى نحن أصحاب الأرض وأنت ستبقى أنت المحتل الغاصب وكل قرارات الضّم هي باطلة باطلة.

رحلة أضافت لي الكثير الكثير على الصّعيد الشّخصي، لن أتحدث هنا عمّا رأيته من أبنائنا الطّلاب من حيوية وحسّ بالمسؤولية ولا عن تلك الطّاقات التي يكنزها جيل هذا اليوم من وعي وحس جمالي أخّاذ.. جيل من الشّباب أظهر عكس ما كان يُقال عنه أو يُشاع عن أنه جيل الفيس بوك ووسائل التّواصل في العالم الافتراضي.

جيل أظهر أنه قارئ بامتياز مثقف يمتلك قدرة على الحوار وتقبل الرّأي..

شباب يحفظون مئات الأبيات من الشّعر ومنهم من يمتلك موهبة الكتابة والارتجال بحيوية خاصة.. ولكني أفردت الحديث قليلاً عن تلك المشاعر التي تنازعتني وأنا أتأمل أرضنا السّورية المحتلة.. . كل هذا أعادني إلى تلك الأيام.. كيف كنا نرسم بأناملنا الغضة طريقنا إلى يافا وحيفا والقدس.. وكيف انفجرت براكين الغضب حين الانتفاضة الأولى.. ملأنا الشوارع والساحات بالمسيرات وبالهتاف..  كيف حفظنا عن ظهر قلب أهازيج الأمهات الجولانيات وقداديس ثورتهم ضد المحتل..  كيف وكيف..

واليوم بات جلّ همّنا وهاجسنا قوت يومنا.. لم نعد نتحسّس حجم الآلام بسبب سيل النصال المنصبّ فينا.. سنان الرماح.. الخناجر والسيوف التي ألفت أجسادنا الغضة طعناتها.

من المسؤول عن كل هذا الجنون!؟؟

من أولئك الذين قتلوا أحلامنا وآمالنا الوطنية الكبيرة؟!

من الذي حوّلنا إلى كائنات لم تعد تقوى على رفع رأسها ولو تجاه شمس أو قمر أو حتى صاروخ قادم للفتك بنا؟؟!

أسئلة وأسئلة!

وأنا أتأمل المراوح الهوائية المنصوبة في أرضنا المحتلة وعلى طول الشّريط الفاصل مراوح ضخمة لتوليد الطّاقة الكهربائية بقوة الرياح..  وأنا أتأمل أيضاً كل هذا البهاء والتّنظيم ومحاولة استثمار كل متر من الأرض..  وأنا.. وأنا..  طَفَت على السّطح أسئلة كبرى.. لماذا هم على ما هم عليه.. لماذا هم وليس نحن؟! وهذا ما نشاهده تماماً عند الحدود مع دولة محتلة أخرى مثل تركيّا.. لماذا هم.. وليس نحن؟ لماذا؟!

قد يقول قائل مجال المقارنة غير جائز، لا سيما أننا لم نخرج بعد من هذه الحرب القذرة التي امتدت لأكثر من عشر سنوات.. أقول إنّ الأمر غير متعلق بالعقد الأخير وحسب بل متعلق بعقود خلت.

غادرنا تلك الدّيار الخيّرة بكل ما نملك من حزن وغضب واستياء مرددين وسنبقى نردد رغم كل عذاباتنا ومصابنا هذا وآلامنا التي أفرحت وأسعدت حدّ القهقهات عدوّنا، وذلك لانشغالنا بتأمين قوت يومنا وزجاجة دوائنا على حساب قضايانا الكبرى.. قضايا التّحرير واستعادة الأرض المغتصبة.. نردّد ما قاله الشّاعر الكبير زكي قنصل:

جولان يا بنت عمّ الشّمس يحملني

شوقي لوجهك ما أطفئه يتقد

حضنتني أمس طفلاً وابتنيت غدي

فكيف أمحوك من قلبي ومن خلدي

إن كنت تبغين في العلياء منزلة

يا أمتي اتّحدي.. يا أمتي اتّحدي!

العدد 1105 - 01/5/2024