الرضا المستحيل

حسين خليفة:

في الدوائر الحكومية تبحث عن رضا الآذن وأصغر موظف تبدأ عنده معاملتك..

في المطاعم تبحث عن رضا الكرسون.

في باصات الهوب هوب تبحث عن رضا المُعاون، وفي البولمان تبحث عن رضا أقرب امرأة إليك.

في الأمسيات الشعرية والقصصية، معظمها، تبحث عن الساعة باستمرار وعن رضا أجهزة الصوت علها تدخل في سبات حتى يفكَّ الله أسرك والفئة القليلة التي غامرت وحضرت.

في الجريدة تبحث عن رضا المنضّد والمخرج والحوّيص ورئيس التحرير وسكرتيرته أولاً.

في المنزل رضا الزوجة طبعاً..

في الحارة رضا الجارات والدائنين من البقال إلى الخضرجي وحتى الحلاق.

البائع يهمّه رضا الزبون، والزبون لا يهمه شيء لأنه يمضي الوقت فاغراً فاه وعيناه تطيران مع سلّم الأسعار الذي يزداد تحليقاً رغم وعود المسؤولين وتطميناتهم بأن )كل شي تمام).

الشاب يبحث عن رضا زميلته زوجة المستقبل الغائم جزئياً، أما الفتاة فتبحث عن رضا أهله.

السجين ينتظر قدوم الضوء ويطلب رضاه، أما السجّان فهو خادم الظلمة.

وإذا كنت مسؤولاً صغيراً أو كبيراً فإنك لن تهتم سوى برضا من رفعك إلى علو الكرسي، ومن يحميك بمقابل طبعاً، وبرضا صحفي مغمور يجيد كتابة التقارير أكثر من المقالات، بل إنه لم يكتب مقالاً عليه العين طوال مسيرته المُظفّرة في صحف الحكومة كلاقط أخبار ومقابلات مع بعض مسؤولي الدرجة الثانية، وتلك أيضاً مدفوعة الأجر، فمقابل تلميع صورة المسؤول وإبرازه كفاتح وقائد معارك ضد الفساد والتسيّب، ومنقذ للمؤسسة من الإفلاس والانهيار، سيكون على السيد المسؤول أن يمرّر ما يحمله الصحفي الهمام من معاملات ويوقع عليها بالموافقة دون كلمة أصولاً.

هذا الزميل لا عمل له سوى ملاحقة أخبار مسؤولي الدولة الصغار، فما إن تكثر الإشاعات حول أحدهم حتى يتلقّفه صاحبنا، وهي إشاعات مقصودة طبعاً مبثوثة من الجهة التي رأت أن رأس المسؤول قد أينع وحان قطافه ليُستبدل بآخر بعد أن فاحت رائحته، ما دام المعلوم سيصلهم من هذا أو من ذاك.

يبدأ بمساومة المسؤول على إجراء لقاءات متعدّدة معه يضع هو أسئلتها وإجاباتها أيضاً، بما يساهم في إعادة تحديث بياناته لدى الجهات المختصة بوضع المديرين والمسؤولين وعزلهم، بتقاريرها التي لا تخيب.

وهنا يشد صاحبنا الوتر إلى آخره، فلا يكتفي بتسيير معاملاته ودعوات المطاعم والهدايا، بل يطلب إضافة إلى كل ذلك (خُرج ناشف) مقطوع عن كل مقابلة يجريها مع نفسه، ويرد فيها على ما تنشره المواقع الإلكترونية وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي من فضائح مُسرّبة إلى السيد المدير من أصحاب القرار الذين قرّروا الاستغناء عن خدماته، فيعطيه بصيص أمل بأن يبقى ملاصقاً للكرسي أطول فترة ممكنة، لعلّه يزيد غلته ويستعيد تكاليف وصوله إلى المنصب.

ولأنه ابن مصلحة وخبير في طرق التعامل مع السادة المسؤولين، وهم أيضا لا تعوزهم الحربقة والشطارة وإلاّ ما كانوا وصلوا إلى الكرسي، فقد زوّد موبايله بميزة تسجيل المكالمات لتكون دليلاً له في مواجهة أي إنكار من أحدهم، وأداة ابتزاز وتهديد لمن يخطئ ولو بكلمة.

وفي مصادفة سوء أضاع الموبايل، وكان أن وجده ابن حلال من طينة الصحفي ذاتها، سمع المكالمات والمساومات والأسرار التي يحتويها وبدأ بابتزاز الصحفي المسكين، فإما أن (يبُقّ) ما جناه خلال رحلته الطويلة مع (مهنة المتاعب) فيعيد إليه الجهاز سليماً معافى مع كل ما فيه من مكالمات وصور وفيديوهات، أو سيسلّم الجهاز إلى الجهات المختصة التي ستقوم حينذٍ بمهمة تأديبه و(عصره) حتى يضع الخمير والفطير.

هكذا وبحركة التاريخ الدائرية عاد صاحبنا إلى نقطة البداية، إلى المربع الأول كما يُردّد أحد أشهر المحللين الفضائيين، فذلك أفضل من أن يصبح الموبايل بيد من لا يرحم.

نعود إلى الرضا المطلوب والمكلف أحياناً..

فالشعب ومجلسه يبحثان عن رضا الحكومة عكس كل البلاد والأمم التي وصلها هذا الاختراع الاستعماري المشبوه، الديمقراطية.

أما الحكومة فإنها تبحث عن رضا الله ورضا الوالدين.

وأخيراً.. الجرّار يبحث عن رضا الحبل، أما الحبل فهو على الجرّار ولا ندري متى سيحلُّ عنه.

العدد 1107 - 22/5/2024