الاستعباد المستمر

حسين خليفة:

المستكشف الاسكتلندي لوسط إفريقيا ديفيد ليفينغستون (1813 ـ 1873) قصد إفريقيا بقصد التبشير الديني، لكنه عندما لمس المظالم التي يتعرض لها العبيد تحول إلى شاهد على المأساة ومؤرخ لها، مأساة المتاجرة بالرقيق.

يُقدّر ديفيد عدد الأفارقة الذين ماتوا كل عام في طريق ترحيلهم إلى أسواق العبيد في زنجبار بثمانين ألفاً كل عام، وهو رقم مهول نسبة لعدد السكان حينذاك. إذ كانت زنجبار المحكومة من العرب العمانيين مركزاً رئيسياً لتجارة الرقيق في شرق إفريقيا، وكان يعبرها سنوياً نحو خمسين ألفاً من العبيد باتجاه أوربا.

قصة العبودية والرق تعود إلى العصور السحيقة في القدم، فالإمبراطوريات والممالك والدول على اختلافها مارست الرق بأشكاله كافة، من استرقاق الناس في الأعمال المجهدة والمذلة، إلى الاسترقاق الجنسي، ولا يخلو تاريخ أمة من الأمم من هذه الأنواع من الاستعباد، وفي بلاد ما بين النهرين يعود تاريخ الرق إلى حوالي عشرة آلاف عام.

لم تفطن البشرية إلى هذه الجناية الكبرى بحق الإنسان إلاّ متأخّرة، فكانت الدنمرك أول دولة تلغي تجارة الرقيق عام 1792، ثم تبعتها بريطانيا وأمريكا. وكانت الدول الأوربية كلها قد أقرّت معاهدة منع الاتجار بالعبيد عام 1814، ونص الدستور الأمريكي على إلغاء العبودية عام 1865.

بقي الأمر رهناً لاتفاقات ومصالح الدول التي تتاجر بالعبيد، حتى جاء قرار عصبة الأمم عام 1906 الذي ينص على منع تجارة العبيد وإلغاء العبودية بأشكالها كافة. غير أن آخر دولة إسلامية ألغت الرق كانت سلطنة عمان عام 1970، وذلك تحت ضغط البريطانيين الذين يملكون سلطة نافذة على السلطنة.

 

لكن، هل انتهى الرق فعلاً؟!

المظاهر اختلفت لكن الجوهر بقي هو هو، في مجتمع طبقي يقوم على استغلال الإنسان للإنسان وعلى تقديس المال والربح، وعلى فضل القيمة الذي يراكم ثروات قلّة قليلة من أرباب العمل ويزيد إفقار الأغلبية التي لا تملك إلاّ قوة عملها، لا يمكن أن ينتفي الرق، لأنه ابن الحرمان والتفاوت الطبقي، لكنه هنا يأخذ أشكالاً مُستجدّة تفادياً لتلقي اتهامات من المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، وتماشياً مع الشرائع الحديثة التي أعلت من شان الإنسان في الثقافة الليبرالية، وهو تطور إيجابي ومهم في تقديس إنسانية الإنسان وتأمين متطلباته المادية والروحية.

يتمظهر الرق في العصر الحديث بمظاهر مختلفة، منها الاتجار بالبشر باستخدام العنف أو الإكراه لنقل الأشخاص وتجنيدهم أو إيوائهم من أجل استغلالهم لأغراض لا إنسانية مثل الدعارة أو الإجرام أو الزواج المبكّر أو تجارة الأعضاء وغيرها، أو استخدامهم في السخرة وهي الأعمال التي يُجبر الناس على القيام بها تحت طائلة العقاب، أو استغلال الديون في تشغيل المدينين بأعمال السخرة، أو عبودية الأطفال بالاتجار بهم وتجنيدهم في الحروب أو استغلالهم في أعمال لا تناسب تكوينهم الجسماني والعقلي، أو الزواج المبكّر حيث يتم إجبار الفتيات الصغيرات على الزواج تحقيقاً لمكاسب مادية أو تنفيذاً لوصايا تلبس لبوس الدين. ففي الصين مثلاً استمر العمل بنظام استرقاق الأطفال الذي يعرف باسم (موي تساي)، حيث يُباع الأطفال للعمل المنزلي، حتى النصف الثاني من القرن العشرين. وفي البيرو أدّت الفظائع التي ارتكبتها شركة بريطانية ضدّ الهنود الأصليين المُستعبدين للاستفادة من المطاط إلى مقاطعة الشركة. وتشير التقديرات إلى أن كلّ طنّ من اللاتكس تنتجه شركة الأمازون في بيرو كلف حياة سبعة أشخاص.

هذه مجرد نماذج من عبودية العصر الحديث، وهي في جوهرها عبودية لكنها مخبأة تحت وابل من النفاق الإنساني والوعظ الديني وغيره.

لم يخرج عن هذا السياق (ممارسة الرق مواربة) سوى تنظيم داعش الإرهابي الذي قام علناً باسترقاق نساء وأطفال من أتباع الديانة اليزيدية وبيعهم، وقدم تبريراً دينياً لذلك مستنداً إلى نصوص وممارسات يعترف بها تاريخ الإسلام والمسلمين (السبي). التبرير الديني الذي قدمته داعش لاستعباد النساء اليزيديات هو إنّ اليزيديين من الطائفة الهرطقية وعبدة أوثان.

في سوريا كانت هناك أشكال متعدّدة من الرق حتى وقت قريب، فكان هناك العبيد الذين يعملون في الخدمة والرعي والزراعة مقابل إطعامهم فقط، ثم أصبح نظام المرابعة في المجتمع الإقطاعي السوري، وهو شكل من أشكال الرق، حيث لا يملك المرابع شيئاً، فهو ونساؤه وأولاده ملك للإقطاعي مقابل إيوائهم وإطعامهم. وبقي نظام المرابعة سارياً حتى الخمسينيات من القرن الفائت.

فيما اعتمدت المصانع التي بدأت تدخل البلاد مع قدوم الفرنسيين على قوانين عمل تنظم العلاقة بين العامل ورب العمل، وتأسّست النقابات التي كانت فاعلة حتى زمن الوحدة وما تلاه من انقلابات عسكرية ألغت النقابات فعلياً ووسعتها شكلياً. فالقطاع الخاص الهجين الذي تشكّل بعد عمليات التأميم، واعتمد على التشارك بين أصحاب رؤوس الأموال والمتنفذين من البيروقراطية العسكرية والمدنية، أعاد زمن الرق في التعامل مع العاملين، فمن المعروف أن العامل كان يوقّع على استقالته بلا تاريخ مع مباشرته العمل، وهو ما يعتبر سيفاً مسلّطاً على رقبته يُهدّد بقطع الأرزاق متى ما أراد ذلك رب العمل، إضافة إلى عدم الالتزام بقانون العمل السوري على علّاته، والذي يستثنى من ذلك القليل من المنشآت الصناعية التي حوربت ونفيت خارج البلد مكافأة لها.

في الحرب بدأت العبودية الفعلية تُطلُّ برأسها من جديد، فظاهرة النزوح المليوني داخل البلاد مع غياب المُعيل في كثير من الحالات سواء بسبب مشاركته في الحرب، أو مقتله، أو اعتقاله، أو خطفه، أو هروبه خارج البلد. هذه الظاهرة أفرزت حالات استرقاق حقيقي وعلني للنساء والأطفال خصوصاً، فدرجت عمالة الأطفال في أعمال قاسية لا تناسب أعمارهم، والمتاجرة بهم، واستغلال النساء في الدعارة والأعمال غير المشروعة مثل المخدرات التي أصبحت بلادنا من أكبر المنتجين والمُصدّرين لها (يعرف جميع السوريين تقريباً معامل الكبتاغون وأصحابها وحماتها)، كما جرى استغلال الأطفال والنساء في النزاع المُسلّح بزجّهم في الأعمال القتالية رغماً عنهم، وهذا الإرغام ليس بالضرورة أن يكون مباشراً وفجّاً، فالحاجة والعوز اللذان يدفعان هؤلاء الأطفال والنساء إلى الانخراط في ميليشيات وكتائب مسلحة هو شكل من أشكال الإجبار.

لا أعتقد أن الرق والعبودية يمكن أن ينتهيا في ظلّ وجود تفاوت طبقي حاد، وطبقات حاكمة تنفرد بالقسم الأعظم من موارد البلد، فيما تترك للسواد الأكبر من الناس فتاتاً لا تغنيهم من جوع ولا تؤمّنهم من خوف، ممّا دفع ويدفع بملايين السوريين الى البحث عن أي بلد يهاجرون إليه لتأمين حدٍّ أدنى من تكاليف المعيشة.

العدد 1107 - 22/5/2024