العبوديّة عمليةُ تجميل العصرِ التي لم تغِب

نور سليمان:

يحتفلُ العالم كلّ عام بتاريخ 23 آب (أغسطس)، وهو اليوم الدّوليّ لإحياء ذكرى (تجارة الرّقيق) والقضاء عليها، هذا التّاريخ لا يحيي فقط اللّيلة التّاريخية لعام 1791م، حين ثار العبيد في (سان دومينغو)، بل يهدف أيضاً إلى تكريم كل من ساهم جماعيّاً أم فرديّاً في القضاءِ على تجارة الرّقيق في العالم. كما يرمي إلى حثِّ الجميع على التّفكير بماضٍ أليم، لكن تبعاته تتواصلُ حتّى يومنا هذا في تغذية اللّاعدالة والتّهميش، حيث أنّ ملايين الرّجال والنّساء والأطفال يتعرّضون اليومَ لأشكالٍ جديدةٍ من العبوديّة.

أقدمُ توثيقٍ معروف للعبوديّة كمؤسّسة وتجارة نجده في قانون (حمّورابي) حوالي 1760ق.م، كمثال: حُكم بالموت كلّ من ساعد عبداً على الهرب أو آوى هارب. ويذكر الكتاب المقدّس (العبوديّة) كذلك كمؤسّسة وصناعة. وينبغي التّمييز ما بين العبيد والرّقيق، فالرّقيق تشتريهم للعمل لديك في مرتبة دنيا عن مرتبة العبد، وتتملّك حياتهم الشّخصية بالكامل كالأشياء. أمّا العبيد فيكون استثمارهم كعمّال أو محاربين، واستعبادهم هو الاستحواذ الكامل على منتوج أيديهم. وقد تستثمر في العبد، تدريب وتطوير وتعليم، ولا تستثمر في الرّقيق. العبوديّة كانت معروفة في أغلب الحضارات القديمة ومجتمعاتها، بما فيها: السّومريّين ومصر القديمة والصين القديمة والإمبراطوريّة الأكّاديّة والرّومانيّة والهند القديمة واليونان القديمة وأوروبّا الكارولنجيه (الكارولاينيه)، وحتى في الممالك اليهوديّة وفي الحضارات السابقة لكولمبوس في أميركا. وآخر عواصم تجارة الرّقيق الكلاسيكيّة العالميّة في عصرنا الحديث هي مدينة (نيو أورلينز) في لويزيانا جنوب الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تشتري العبيد من الشّركات الفرنسية لتعيد تصديرهم إلى مختلف نواحي قارّتي أميركا، فكانت تجارة العبيد هي أعظم موارد الولايات المتحدة ما قبل النّفط، إلى أن منعها القانون سنة 1865م.

 

لكن هل انتهت العبوديّة؟

يشير تقرير العبوديّة العالمي إلى أنّ أكثر من أربعين مليون إنسان يعانون الاستعباد في يومنا الرّاهن، حيث يعمل منهم بالإكراه حوالي 23 مليون عامل، أغلبهم من النّساء العاملات (71%) فأعلى نسب للعبوديّة المقوننة في العالم تقع في دول مثل: كوريا الشمالية وأفغانستان وإيران وجنوب السّودان وأريتريا وموريتانيا وسورية، أمّا أعلى نسب للعبودية المقنّعة في العالم فتقع في دول الخليج العربي ولبنان والصّين. في ظروفِ نقلٍ قسريّة ووحشيّة، وفي ظلّ انتهاكات لأبسط حقوق الإنسانيّة، استعبدَ المستعمرون الأوربيّون أكثر من 12 مليون امرأة ورجل وطفل من إفريقيا، تمّ نقلهم على مدارِ نحو أربعة قرون إلى الأمريكتَين عبر المحيط الأطلسي. ولم يقتصر الأمر على ظروف النّقل الوحشيّة، إنما تعرَّض المستعبدون خلال تلك الرّحلات لاعتداءات جنسيّة وانتهاكات، ومن ضمن الأحداث المخزية، أنه خلال إحدى الرحلات انتشر مرض على متن إحدى السفن عام 1781م، وللحدّ من انتشاره أمر القبطان (لوك كولينجوود)، بإلقاء أكثر من 130 إفريقياً في البحر وهم أحياء. كما أُصيب معظم المستعبدين أثناء نقلهم بسوء التغذية والجفاف، وبالعديد من الأمراض ومنها الجدري، كل ذلك أدى إلى وفاة نحو (15%-25%) من الأفارقة المستعبدين على متن السّفن، ووفقاً لتقديرات مؤرخين وأثناء عملية النّقل، وخوفاً من تمرُّد المستعبدين سُمح لهم بقضاءِ بعض الوقت على سطح السّفينة، ومن ضمن تلك التّمردات، قاد السّيرليوني (جوزيف سينكي)، في عام 1839م، تمرّداً ضمّ 53 مستعبداً على متن سفينة الرّق الإسبانيّة (أميستاد)، ممّا أسفر عن مقتل القبطان واثنين من أفراد الطّاقم، بينما أمرت المحكمة العليا الأمريكيّة في النّهاية بإعادة الأفارقة إلى ديارهم، وقد تمّ عام 1997م إنتاج فيلم سينمائي، يحكي قصّة تمرّد سينكي ورفاقه تحت عنوان (أميتساد.) لذا أنشأت الأمم المتحدة برنامج التوعية بشأن (تجارة الرّقيق والرّقّ عبر المحيط الأطلسي) عام 2006م بهدف نشر الوعي حول تاريخ تلك التّجارة وتأثيرها على العالم الحديث، والإرث العنصريّ لها. وفيما يتعلق بنهاية تجارة الرّق عبر المحيط الأطلسي، فقد بدأ الحديث عن حظرِ استيراد المزيد منهم في الولايات الشّماليّة في الولايات المتحدة خلال الثّورة الأمريكية (1775- 1783)، إلاّ أنّ قانون حظر استيراد العبيد سُنّ عام 1808م، وفُرض فعلياً بواسطة الحصار الشّمالي للجنوب في عام 1861م أثناء الحرب الأهلية الأمريكيّة، أمّا في بريطانيا العظمى فقد حُظرَت العبوديّة في جميع أنحائها عام 1833م. لقد قدّمت (منظّمة العمل الدّوليّة) معلومات صادمة حول العبودية الحديثة وأشكالها، وبحسب إحصائيات أجريت في عام 2016 (يوجد أكثر من 40.3 مليون إنسان في العالم ضحايا للعبودية الحديثة، منهم 25 مليون إنسان يعملون قسرياً بنظام السخرة، و5 ملايين يُستغلون في الدعارة والجنس القسريّ)

اليوم، تبدو الجدران سميكةً في قلبِ هذه المدينةِ المظلمة، فالحرب اللّعينة لم تترك حجراً على حجر، وقلباً على قلب، وكلّما توالَت الأزمات الاقتصادية زادَت الآثار السّلبيّة من هجرةِ الشّباب، إلى الفقرِ المدقع، والجوع والأمراض المرافقة لها، وهذا يدفعُ الجميع للهجرةِ الشّرعية وغير الشّرعيّة. ومن خلال مؤشر العبوديّة العالمي، تعتبرُ سورية من أعلى البلدانِ خطراً في مؤشر العبوديّة الحديثة حيث صُنّفت الأعلى عربيّاً في معدل انتشار العبوديّة الحديثة، وأعلى عدد مطلق لعدد ضحاياها، حيث يمثّلون ما نسبته 76 % من ضحايا العبوديّة الحديثة في المنطقة، في حين سجّلت كلّ من العراق واليمن المراتب الثانية والثالثة. يصلُ عدد ضحايا العبودية الحديثة في الدّول العربيّة إلى حوالي 529 ألف إنسان، بمعدل 1% من إجمالي عدد العبيد في العالم، يخضع حوالي 67% منهم للعمل بالإكراه، ونحو 33% للزواج القسري، مقسمين على 11 دولة عربية أبرزها سورية والإمارات. وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أوربا الغربية واليابان في صدارة الدّول المستقبلة للبشر المستَغلين في تجارة الجنس، ويأتي أغلب الضّحايا من بلدان العالم النامي في آسيا وأفريقيا وشرق أوربا. أيضاً تقول إحصائيات (منظمة العمل الدوليّة) أنّ نحو 152 مليون طفل (حوالي 10% من أطفال العالم) يستغلون في العمل الإجباري، 70.9% منهم في مجال الزراعة، و17.1% في قطاع الخدمات، و11.9% في قطاع الصّناعة. كما يوفّر العنف والنّزاع المسلح في دول كثيرة أرضاً خصبة لتجنيد الأطفال، وهو أحد أشكال العبودية الحديثة، ممّا يحرمهم من أقلّ الحقوق الاجتماعية، مثل: التّعليم والصّحّة والعيش ضمن العائلة، وتقدّر (الأمم المتحدة) أنّ أكثر من 300 ألف طفل استخدموا جنوداً في النّزاعات المسلحة في دول عديدة مثل: الصّومال وجنوب السّودان ونيجريا والكونغو وسورية.

لم تدرج أيّ دولة حتّى الآن مصطلح (العبوديّة الحديثة) ضمن الأطر القانونية، ولهذا السّبب، يمكنُ مشاهدة الأشكال الحديثة من العبوديّة في كل مكان بالعالم تقريباً. وضمن سياق العولمة والاقتصاد الرّأسماليّ، الحظوة للمال وليس للبشر، فالبشر هنا يتمّ تصنيفهم ضمن فئاتٍ تحت مسمّى (الموارد البشرية)، وفي هذه الحالة يتحوّل البشر ليس فقط إلى عبيد، بل إلى أدوات ومنتجات وسلع، يتمّ استغلالهم واستهلاكهم إلى الحدّ الأقصى، وبعد ذلك يتمُّ رميَهم كقطعِ غيارٍ (انتهت) صلاحيّتها.

 

العدد 1107 - 22/5/2024