هذا ما وجدنا عليه آباءنا

حسين خليفة:

بهذه العبارة، فقط بهذه العبارة التي تكفي وحدها لتقوم أجيال كاملة بتكريس المُكرّس والدفاع عن السائد وإدانة بل تجريم كل محاولة للخروج عن الصندوق المغلق الذي لا يمكن أن نتحرّك خارجه.

بمنطقها ومضمونها أُعدم غاليلو، لأنه قال بدوران الأرض حول الشمس، فيما الكنيسة تقول إن الشمس هي التي تجري كما تقول الأديان الأخرى التي اعتمدت على الرؤية الحسيّة المباشرة دون ترك هامش للعقل والاكتشاف والعلم الذي لا يستسلم للبديهيات والخرافات، (فـالشمس تجري إلى مستقر لها)، وهو المنطق الذي أُحرقت به مؤلفات ابن رشد، وأُعدم ابن المقفع بطريقة وحشية قلَّ نظيرها، ومُنعت مؤلفات إخوان الصفا، وقُتل فرج الله الحلو وفرج فودة ومهدي عامل وحسين مروة وسمير القصير وغيرهم كُثُر، وستطحن هذه الماكنة الجهنمية آلافاً مؤلفة من المبدعين والمفكّرين الذي يحاولون دقّ جدران الخزان، الأمر الذي لم يفعله أبطال رواية غسان كنفاني (رجال في الشمس) فماتوا داخل صهريج على الحدود العراقية الكويتية وهم يحاولون دخول الكويت تهريباً بعد أن احتُل وطنُهم وشُرِّدوا من ديارهم، فيما دفع غسان حياته ثمناً لصرخته تلك، ودفع ناجي العلي أيضاً ثمن تطاوله على الآلهة الأرضية التي يُمنع التعرّض لها بحكم التربية المجتمعية وتاريخهم (النضالي)، فتحوّلوا إلى طواطم مقدّسة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، وأيُّ حديث (أرضي) عن هؤلاء القادة ورجال الدين خارج لغة التقديس يصبح قائله مارقاً وخارجاً عن الجماعة، ووجبت تصفيته جسدياً أو فكرياً.

يا إلهي!! كم ألوفاً من السوريين ابتلعهم البحر ولم يكن ثمّة خزان ليدقّوا جدرانه؟! لم يكن ثمّة سوى عالم أصمٍّ أبكم يشاهد مأساة شعب يسير إلى الانقراض بفعل صراع الأباطرة وما زال يتفرّج… وكم ابتلعتهم المنافي والسجون والمقابر الجماعية مجهولة الاسم والعنوان؟!

لم يتعرّضوا للذّات الإلهية، لم ينفوا قدسية النصوص السماوية والأرضية، فقط حلموا بوطن أجمل، بصباحات لا تُفسدها روائح العسس، الجيف، وبأطفال لا يُحرمون من أساسيات الطفولة، بشوارع نظيفة وشجر يكفي لأن نتنفّس بكرامة وحرية دونها هذا الخراب العميم.

هل خرجنا عن موضوعنا؟! لا أعتقد.

إن التربية الجمعية في المجتمعات المحكومة بإيديولوجيات ماضوية أو حتى معاصرة شكلاً، هي التي تؤسّس لما يمكن تسميته بالنظرة الجمعية، أو اللاعقل الجمعي القطيعي، الذي ينتج أيضاً بؤراً جاهزة لتصفية كل مختلف، وتصديق كل بروباغاندا تصور الآخر غولاً وعدواً يوشك على افتراسنا إن لم نفترسه.

وإلّا فمن أيِّ مستنقع جاءت داعش وتفرّعاتها الدينية والقومية والاشتراكية؟!

أليست ابنة رؤية جمعية فُرضت على المجتمع خلال قرون، رؤية تُكرّس السائد المستقر وتعتبر أي خروج على القبيلة سبباً كافياً للقتل؟!

أليس القتال دفاعاً عن رجل دين أو دكتاتور يتلطّى خلف مقولات دينية أو أيديولوجية، وتصفية كل من يرى ما لا يراه هذا الدكتاتور، نتاج تربية عائلية ومجتمعية تُقدّس القوة وتُكرّس الأحادية والتكفير والتخوين؟!

بهذا يصبح القاتل ضحية ويصبح الضحية مغامراً لم يحسب حساب لزوجة المستنقع وروائحه الراكدة في الأعماق التي ستخرج مع أول كائن يحاول الخروج من المستنقع.

في حوار مع صديق وهو رجل دين متنور نسبياً سألته: أنت وأنا وجميع الحاضرين مسلمون فقط لأنهم ولدوا لأبوين مُسلمَين، ولو ولدوا لأبوين مسيحيين أو يهود أو بوذيين لكانوا من دين أبويهم، لنفترض شيخنا أنني بعد أن كبرت واطلعت على بقية الأديان وجدت أحد هذه الأديان أقرب إلى عقلي وقلبي، واعتنقته، بأي حقٍّ تُشرّعون قتلي؟!

طبعاً كان موقفه مُحرجاً جداً، فجريمة قتل (المرتد) واردة في صلب الشريعة وفي حديث صحيح، وفي الوقت نفسه توجد نصوص دينية تُشرّع الاختلاف: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وكانت حُجّته إن الردّة تؤدي إلى فتنة!!

إذاً تبقى على دينك كرهاً وليس طوعاً.

وفي بقية الأديان نصوص وأعراف لا تقلُّ سوءاً وتنكيلاً بمن يُغيّر دينه عن الدين الإسلامي، حتى لا يقول أحد إننا نُخصّص ديناً بعينه، مع كامل الاحترام لجميع الأديان، ولجميع المتدينين، ما داموا لا يحاولون فرض معتقداتهم على الآخرين.

ينسحب الأمر على الخيارات السياسية في العائلة إلى حدٍّ كبير، فبحكم انتمائنا إلى مجتمعات ما زالت العائلة تُعتبر المصدر الأول لتنشئة الأطفال وثقافتهم ورؤاهم، يحاول الأب الشيوعي أو البعثي أو القومي أو الإسلامي جعل أولاده نسخاً منه ضمن مجتمع أبوي صارم، والأمر أقوى وأشرس إذا كان الأب والأم منتميين إلى تيار فكري واحد، حينئذٍ من شبه المستحيل أن يخرج أحد من أبنائهما عن (الصراط المستقيم) حسب رؤيتهما.

هكذا نشأت لدينا العائلات الحزبية، ثم الحزبية العائلية، ثم الوراثة في تسلّم المناصب القيادية في كثير من الأحزاب ومنها بعض الأحزاب الشيوعية للأسف.

وبالتالي فلا فرق هنا بين الحزبي العلماني، والإسلامي السلفي، في محاولة جرّ كلّ نسله معه إلى حظيرته الفكرية والسياسية، وفي محاولة توريث أحد أولاده موقع المسؤولية حتى لا تذهب الى (غريب). وفي بلدنا وبلدان الجوار عشرات الأمثلة القديمة والحديثة عن توريث الأحزاب والحركات والمناصب وهي ظاهرة مستمرة وتتمدّد.

التحرّر من سجن الجماعة ليس بالأمر السهل، وإنما يحتاج إلى زمن طويل وخطط طموحة، منها إعداد مناهج دراسية تُحرّض على السؤال والاختلاف مع إلغاء المواد التي تُروّج للإيديولوجيات على اختلافها والاستعاضة عنها بمواد تُدرِّس التاريخ والإيديولوجيات المختلفة وفق رؤية متوازنة ومحايدة ما أمكن، دون الخوف من ردِّ فعل أيّ جماعة على هذه الرؤى. مع السماح للإعلام بعرض القضايا الساخنة التي تتعلق بحق الاختلاف وتُكرّسه، والتعويد على الحوار الحضاري الذي يعطي الآخر مساحة مساوية لا تحجب عنه الماء والهواء.

العدد 1105 - 01/5/2024