الأزمة المالية العالمية ومشكلة الديون

يونس صالح:

المديونية الخارجية من الظواهر القديمة المرتبطة بتطور العلاقات الاقتصادية الدولية، وخلال تاريخها الطويل كانت هذه الظاهرة محدودة الحجم، إلا أنها تطورت في السنوات الأخيرة لتصبح من أعقد القضايا المطروحة على الساحة الاقتصادية الدولية. ولقد كثرت المؤتمرات والمناقشات والكتابات والقرارات التي تعالج مشكلة الدين العام للدول النامية، والمشاكل الاقتصادية المترتبة على العجز الكبير في موازين مدفوعاتها الدولية من دون حل، ولا حتى بالاقتراب من أمل في حلها.

فما هي المشكلة في الأساس؟ وما هي نتائج الوضع الحالي لدول العالم الثالث؟

لقد برزت مشكلة الدول النامية بشكل كبير واضح بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب حصول معظم تلك الدول على استقلالها، ومحاولتها بناء اقتصادها الوطني، والتخلص من التبعية الاقتصادية للدول الرأسمالية الصناعية. لكن معظم محاولاتها في الزيادة من دخولها الحقيقية- لا النقدية فقط- قد باءت بالفشل، رغم وفرة ثروتها الوطنية الطبيعية، وذلك لأسباب عديدة أهمها: قلة إنتاجيتها الزراعية، وسيطرة القطاع الزراعي على باقي القطاعات الأخرى، والأخطر من ذلك يكمن في الحقيقة المرة المتمثلة في فقر السياسات الاقتصادية التي اتبعتها تلك الدول، في محاولتها للرفع من وضعها الاقتصادي، كما أهملت سياساتها السكانية إلى أقصى الحدود، مما جعلها في حالة تدهور اقتصادي مستمر.

إن إهمال الدول النامية لسياساتها السكانية جعل المنافع المرتقبة صعبة التحقيق، زد على ذلك أن الفوائد الثابتة والمتحركة المتوقعة من التجارة الدولية مع العالم الصناعي لم تؤت أكلها، فالشركات الأجنبية العاملة في تلك البلدان في مجال الصناعات الاستخراجية لم تدفع ضرائبها، كما يجب ويحق للحكومات المضيفة لها. كما أنها لم تشتبك اقتصادياً مع القطاعات الأخرى المكونة للاقتصاد الوطني لتلك البلاد النامية، أضف إلى ذلك أن مستوى العمالة ومستوى الأجور منخفضان في العمليات الاستخراجية، في قطاع المناجم، مما جعل أثره الاقتصادي من ناحية الدخل ضئيلاً، ولقد زاد الطين بلة أن بدأت أسعار المواد الأولية المصدرة تنخفض، بسبب الركود الاقتصادي في الدول الرأسمالية الصناعية، وبسبب التغيرات التقنية في القطاعات الصناعية متعددة الأطراف.. ومما جعل وضع تلك الدول النامية في حالة يرثى لها زيادة أسعار المواد الرأسمالية المستوردة الناتجة عن ازدياد التضخم المالي في العالم الصناعي.

كل العوامل السابقة إلى جانب تفشي الفساد الإداري، وعدم الاستقرار السياسي، جعل من الصعب وضع سياسة اقتصادية إنمائية، وخطة تنفيذية لتلك السياسة الاقتصادية، وعلى ذلك اعتمدت الدول النامية على المساعدات المالية والعينية من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وكذلك المؤسسات الحكومية التابعة للدول الصناعية المهتمة بشؤون المساعدات المالية والفنية للعالم الثالث. وأخيراً دخلت بعض الدول المصدّرة للنفط ضمن الدول المقدمة للمساعدات المالية للدول النامية، لكن من الخطأ الكبير أن نبالغ بمقدرة صندوق منظمة الأوبك على حل المشاكل الاقتصادية في الدول النامية، فالأعضاء الممولون لصندوق الأوبك هم أنفسهم دول نامية، ويعانون من مشاكل عديدة مرتبطة ارتباطاً جذرياً بأصول التنمية الاقتصادية.

لا شك أن الدول الصناعية هي الأقدر، فإن أعطت مساعدات مالية، فإنما تعطي من فائض مالي ناتج عن هياكلها الاقتصادية المتعددة القطاعات ذات الإنتاجية العالية. إن 90٪ من مجموع ديون الدول النامية ترجع مسؤوليتها لعشر دول متوسطة الدخل، خمس منها أعضاء في منظمة الأوبك.

أما المساعدات التي جاءت من صندوق النقد الدولي بصفة عينية، على شكل استشارات ونصائح اقتصادية، والمساعدات المالية بصفة نقدية من البنك الدولي، فلم تغير من الوضع الاقتصادي للدول النامية، فمن المؤسسة الأولى جاءت النصائح صعبة التطبيق كزيادة الضرائب لتخفيض أجور العمال التي هي أصلاً عند مستوى الكفاف، ومن الناحية السياسية فإن الأخذ بنصائح صندوق النقد الدولي لم تكن مقبولة أبداً من معظم الدول النامية، وذلك بسبب آثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

إن أثر تلك السياسة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية هو التقليل من الدخل الحقيقي للفرد، عن طريق تجميد أجره، وتقليل المصروفات الحكومية، مما يعني عدم توفر الخدمات المدعومة من الحكومة، وزيادة الضرائب سوف تزيد من غضب الشعب، ولذلك فإن جميع نصائح صندوق النقد الدولي كانت جائرة، والقبول بها من أجل تحسين موازين مدفوعاتها الدولية، معناه سقوط أي حكومة، وأي حكومة أخرى تأتي سوف تقع في المشكلة نفسها، وهكذا تستمر الحلقة المفرغة.

إذاً ما الحل الأمثل الذي كان يراود عقول وزراء المال في الدول النامية دون أن تتعرض حكوماتها لضغط أو تغيير سياسي، ودون الأخذ بنصائح صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات؟

الجواب عن هذا السؤال هو الذي أوقع الدول النامية والعالم كله في أزمة مالية لا حد لها، ولا حل لها في القريب العاجل، ولا حتى في الأمد الطويل. إن حلول وزراء المال للدول النامية كانت تعني الاقتراض من الحكومات الصناعية والبنوك التجارية العالمية، وخصوصاً الأمريكية منها التي بدأت بتقديم القروض المودعة لديها لأجل قصير إلى الدول النامية، لكي تغتنم فرصة سعر الفائدة العالي التي كانت الدول النامية مضطرة إلى قبوله، من أجل حل بعض مشاكلها الاقتصادية، وتحسين أوضاع موازين مدفوعاتها الدولية. ثم ازدادت تلك القروض وحان أجلها، فلم تستطع الدول النامية الدفع، فتحولت تلك القروض إلى قروض طويلة الأجل لتمويل بعض المشاكل الهيكلية في الاقتصاد الوطني للدول النامية، حتى أصبحت قيمة الديون الكلية لدول العالم الثالث أكثر من تريليون دولار تعود للبنوك الأمريكية أكثر بقليل من ثلث الديون التجارية، والباقي قدمته البنوك الأوربية واليابانية وبعض البنوك العربية.

إن مكمن الخطر يعود للبنوك الأمريكية، فهي تشكل الأسس المالية التي يركز عليها الاقتصاد الأمريكي، فإذا ما رفضت الدول النامية أن تدفع ديونها، فقد يقود ذلك إلى إفلاس بعض تلك البنوك، وآثارها السيئة لن تقف عند التأثير على الاقتصاد الأمريكي، بل سوف يؤثر تأثيراً ضاغطاً على الاقتصاد العالمي.

إن دول العالم الثالث تعي هذه المشكلة، وهي غير قادرة على الدفع، ولذلك طلبت تخفيض مديونيتها، وتمديد مدة الدفع إلى وقت أطول، إن كل ذلك جاء عن طريق ما يسمى بإعادة برمجة الديون، إلا أن ذلك لن يحل المشكلة المالية، بل سوف يؤجل تفاقمها وزيادة حجمها.

وخلاصة القول إن مشكلة ديون العالم الثالث سوف تزداد، ولو فرضنا أن دول العالم الثالث سوف تكون قادرة على التصدير إلى الخارج لكل ما تنتجه فلن تقدر على دفع ديونها ولا حتى دفع سعر الفائدة المتراكم حتى يومنا الحاضر.

الحل يكمن في قوة الاعتماد على النفس، وضرورة الاستقرار السياسي والاقتصادي لتلك الدول، مع الأخذ بالحسبان التخلص من الفساد الإداري، وجعل العلم هو الأساس المستقبلي لحل مشاكل دول العالم الثالث عن طريق الحد من النمو السكاني، وعن طريق الدور الأساسي لعلماء دول العالم الثالث في حقل الطاقة، ومختلف المجالات العلمية الأخرى التي سوف تزيد من الإنتاجية الزراعية والصناعية.

وأخيراً فالتعاون الدولي لا شك ضروري من أجل مستقبل أفضل للإنسان في دول العالم الثالث والدول المتقدمة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024