الصحافة الورقية.. ذكريات لن يزيلها تطور التقنيات

إيمان أحمد ونوس:

منذ أن ظهرت فكرة الصحف لعرض الأخبار بصورة يومية لأوّل مرّة في العاصمة روما من خلال صحيفة (أكتا ديورنا) حوالي عام 59 ق. م مروراً بأول صحيفة عربية صدرت من العاصمة بغداد عام 1816م وحتى إيقاف طباعة الصحف في العالم أجمع، وتحديداً مع ظهور (كورونا) كان أجمل ما عايشناه منذ كنّا صغاراً وعلق في مخيّلتنا هو صورة آبائنا يمسكون بالجريدة كل صباح يتابعون ما تحتويه من أخبار، وكنّا نحلم باليوم الذي يُمكننا فيه أن نكون مثلهم وتكون الجريدة رفيقة صباحاتنا.. وفعلاً صارت تلك الجريدة رفيقة عمرنا إلى ما قبل بضع سنوات.. فلم يكن ليستقيم يومنا من دونها.. نحملها معنا من أقرب كشك أو مكتبة إلى عملنا نطالع فيها عناوين عريضة تمهلنا بعض الوقت حتى تأتي قهوة الصباح لتكون الجلسة أجمل وأعمق، خاصّةً حين تدور النقاشات حامية الوطيس مع زملاء العمل حول بعض العناوين الهامّة أو الأخبار التي ننتظرها، فإمّا تأتي بما لا نتوقع أو لا تأتي أصلاً.. نعم، لقد كان للورق وملمسه بين أيدينا دفء وألق شكّل نوعاً من الألفة والصداقة التي لا تُجاريها صداقة معه، خاصّة حين يكون رفيق فراشنا أو خلوتنا بأنفسنا سواء مع الجريدة أو الكتاب الذي بدأ هو الآخر يتلاشى من حياة الذين اعتادوا قراءة الكتب الإلكترونية لاسيما الشباب منهم باعتبارهم أبناء المرحلة الإلكترونية إن صحَّ التعبير والوصف.

لقد اعتاد كبار السنِّ على اصطحاب الجرائد معهم في الطرقات أو وسائط النقل أو الحدائق يتابعون أخبارها باهتمام واضحٍ يشغلهم عمّا حولهم، أو يدفعهم للتعارف وتبادل الآراء حول الأخبار التي تحملها، لاسيما الأخبار السياسية المتعلّقة بالحياة العامة للناس أو بوضع المنطقة العربية التي كانت وما زالت وستبقى تفور على فوهة بركان أجّجته وتؤجّجه كل يوم السياسات الغربية التي لا تهدأ ولا تستكين في سعيها لاستمرار السيطرة عليها لأهداف متعدّدة ومختلفة في أهميتها.

نعم، لقد كان للصحافة الورقية ألقها ودورها المؤثّر في نشر الثقافة بين الناس، لسهولة الوصول إليها في كل وقت، ورغم أن بعضها كان يُستخدم لأغراض منزلية إلّا أنها كانت تلبي فضول الأمهات والأولاد حين استخدامها، فيطالعون ما يجدونه في الصفحة المُستعملة، وبهذا خلقت الصحافة الورقية دافعاً للقراءة في مجتمعات تقلُّ فيها نسبة القراءة والقُرّاء باستثناء نخب المثقفين والسياسيين. أمّا اليوم ومع اندثار آثارها إلاّ ما بقي محفوظاً لأسباب تتعلّق باهتمامات أصحابها، فلقد نأى الكثيرون عن عادة القراءة لاسيما كبار السنّ الذين لم يألفوا تقنيات الكمبيوتر أو اللابتوب أو حتى البحث في الهواتف الذكية عمّا يمكن قراءته أو الاطلاع عليه، إمّا لجهلهم بتلك التقنيات أو لأنهم لم ولن يعتادوا القراءة من خلالها لأنها لا تمنحهم الحميمية التي تمنحهم إياها الصحافة الورقية. وحقيقةً إن التفاعل الذي كانت تخلقه الجريدة مع قارئها، لاسيما حين يضع الهوامش أو الخطوط تحت أفكار أو فقرات أعجبته أو لامست اهتمامه وفكره، لا يمكن للصحافة الإلكترونية أو الكتاب الإلكتروني أن يصل إليها مهما بلغ من تطور.

لا شكّ أن التطور في مختلف مجالات واتجاهات الحياة والفكر سمة وسنّة الحياة الإنسانية، ولا شكّ أيضاً أن هذا التطور طال وسيطول دائماً ما يتعلّق بعلاقتنا مع الورق والصحف والكتب وهذا أمر طبيعي، إلاّ أن ما علق في ذاكرتنا عنها لا يمكن أن يُخرجها لا من بيوتنا ولا من مخيّلتنا، فالجرائد باقية في مجلّدات احتفظنا ببعضها لأهميته أو لأن لنا في تلك الصفحة مقالاً يحمل اسمنا، مثلما نحتفظ بمكتبات تضمُّ كتباً متنوعة نتباهى بها وتستثير عناوينها شهوتنا للقراءة كلما وقعت أعيننا على بعضها رغم قراءته سابقاً.. فلم يستطع لا الكتاب الإلكتروني ولا الصحيفة الإلكترونية أن تنال هذا الشرف أو الحميمية التي نالها ورق الجريدة أو الكتاب.

العدد 1105 - 01/5/2024