حنين!

محمود هلال:

نعيش اليوم في عالم معقّد يغلب عليه طابع النفاق والمجاملة والرياء إلى ما هنالك من مصطلحات تتعلق بهذا الموضوع، الأمر الذي بات يدفعنا إلى الحنين إلى الماضي الجميل، لاتصافه بالبساطة والصدق والعفوية والصراحة، وبسبب قسوة الحاضر واليأس من القادم المجهول.

(بصراحة.. تعا نحكي بصراحة.. ما في أحلى من الصراحة).. كلمات غنّاها الفنان المبدع زياد الرحباني، وكثيرون يتغنّون بها دائماً وأبداً، لكن نادراً ما يطبقونها ويعيشون حلاوتها.

الصراحة كما يقال في العامية (بساط أحمدي)، ذلك المثل الشائع الذي يستخدم للدلالة على عدم التكلف والابتعاد عن المجاملات، ويشير إلى البساطة في التعامل. نعم. للصراحة الكثير من المرادفات الإيجابية، مثل الوضوح والجرأة والصدق والنقد والمكاشفة والشفافية وغيرها، وهي نقيض لكثير من المرادفات السلبية مثل الغموض والتصنع والكذب واللف والدوران والجبن والمجاملة والرياء والنفاق، إلى آخر ما هنالك.

لكن إذا أردنا البحث في موضوع الصراحة، قلنا: بصراحة لا توجد صراحة، وأعتقد أن السبب في انعدام الصراحة يعود إلى التربية، فمنذ يكون الإنسان طفلاً، يضع له أبواه حدوداً معينة للحديث وإبداء الرأي، والمواضيع التي يجوز له التكلم فيها والتي لا يجوز، أي هناك مجموعة خطوط حمر تجاوزها ممنوع، ثم ينتقل فيجد هذه الخطوط وغيرها في المدرسة وفي المعمل وفي الحياة وفي المجتمع، وهذا أيضاً سيدفع هؤلاء الذين تربوا على الخوف إلى اللف والدوران حول هذه الخطوط بغية الحصول على مقاصدهم، سواء كانت معرفية أم مادية، وقد يلجؤون إلى الكذب في سبيل ذلك، وأحياناً تلجأ الأم أيضاً للتستر على تصرفات الأولاد وسلوكهم الخاطئ، خوفاً من عقاب الأب لهم، وذلك شكل من أشكال انعدام الصراحة بين الزوجين، وقد يكون العكس بأن يتكتم الزوج عن بعض الأسرار والمواضيع ويخفيها عن زوجته وأولاده، وذلك حرصاً على استمرار الحياة الزوجية وهذا شكل آخر.

وهناك من يخشى أن تصل الصراحة إلى درجة الوقاحة، أي الإفراط فيها قد يجرح مشاعر الآخرين، فكثيرون يفضلون التحدث بلغة دبلوماسية فيها الكثير من اللباقة، وغالباً ما تجد ذلك عند الصحفيين والشعراء والأدباء والفنانين. إذ يلجؤون إلى لغة الإيحاء والترميز والتشفير في الشعر والأدب وفي الفن وفي النقد وغيره، فيبتعدون عن المباشرة إلى لغة أشبه بالصراحة!

سبق أن أشرت إلى أن انعدام الصراحة يؤدي إلى الكذب، والكذب بحد ذاته آفة خطيرة قد تودي بصاحبها، وتعرفون قصة الراعي الكذاب الذي استنجد بأهل القرية من الذئب، وكذب عليهم أكثر من مرة، وعندما هجم الذئب بالفعل لم يجد من يصدقه!

يبقى الصدق هو طوق النجاة لنا، وحبل الكذب دائماً قصير، وتكرار الكذب يؤدي إلى انعدام الثقة، علينا بالشفافية والمكاشفة ومحاسبة الكذابين والغشاشين والنصابين والمنافقين وما أكثرهم في هذه الأيام العصيبة! إنهم يتكاثرون كالفطر، ومازالوا يستغلون الحرب والحصار ويفتعلون الأزمات ويمصّون دماء الناس ليزيدوا من ثرائهم.

ما أود الإشارة إليه أيضاً هو أن على المسؤولين والموظفين الحكوميين أن تكون تصريحاتهم ووعودهم واضحة وصريحة، لأن الصراحة راحة كما يقولون، وعليهم توخي الحذر والدقة بإطلاق الوعود، وأن لا يقولوا كلامهم جزافاً لأن غالبية المواطنين تتمسك بهذه التصريحات وتعلّق عليها الآمال والأحلام، وعدم تنفيذها يؤدي إلى الإحباط والخيبة واليأس عند الناس ويخلق المزيد من المشاكل داخل المجتمع.

 

 

العدد 1104 - 24/4/2024