بلاد تستحق الرثاء

حسين خليفة:

بقدر ما هي مرحلة حافلة بالنشاط والعطاء، والطاقة التي لا تنضب، تبقى مرحلة الشباب أكثر المراحل حساسية في عمر الإنسان من حيث تأثّره بالآخرين وبالظروف المحيطة به، والتي تلعب دوراً حاسماً في رسم ملامحه الفكرية والثقافية، وحتى الجسمانية. فهي مطلع النضج، وبداية اكتمال المفاهيم والرؤى والتطلّعات، ورسم الطريق المستقبلي الذي يسلكه الإنسان بقية عمره، إذ لم يعد الأمر أحلاماً وصوراً ملونة كما في الطفولة، هنا مواجهة مع الواقع المُعقّد والعنيد في وجه جموح الشاب/ة وطموحه الكبير وفكره الوقّاد وجسده الفائر.

عندما ترى وتقرأ وتسمع عن مئات الآلاف من الضحايا بين الشباب السوريين سواء في الحرب أو الاعتقال أو الاختفاء أو الغرق في بحار تفتح أفواهها لأجساد السوريين، فإنك تقرأ حجم الكارثة التي نحن غارقون فيها والكوارث الأكبر التي تنتظرنا.

بلاد تنزف أجمل ما فيها، تركل بقدم مليئة بالبثور والقيح طاقاتها الحقيقية، التي لا بناء ولا إبداع ولا تجديد إلاّ بها. أينما استوقفت شّاباً أو شّابة وسألته عن مشاريعه تجد الجواب يكاد يكون واحداً: الهجرة.

الهجرة إلى أي مكان، إلى لا مكان، المهم أن يخرج من هذه الحفرة التي وضع فيها بلا إمكانات، بلا أفق، بلا كوة ضوء في نهاية النفق، بل إنه نفق لا تبدو له نهاية حتى الآن، لأن أي بصيص ضوء لن يأتي سوى من حل سياسي واقعي يعيد بناء البلد ويؤسّس لعقد اجتماعي جديد قائم على العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وهو ما تقف دونه عوائق كبيرة وقوى عاتية مستفيدة من استمرار حالة الضياع والحرب متعدّدة الأشكال، وتدمير الاقتصاد ليصبح اقتصاداً قائماً على الاستيراد وتجارة المخدرات والأعضاء، مع ما يعنيه ذلك من تفاقم انتشار الفقر والجريمة والانحطاط الفكري والثقافي، إنه اقتصاد أثرياء الحرب وتُجّارها، الذين لن يتخلّوا بسهولة عن مكاسبهم ولو استنزفت البلاد من تبقى من شبابها وعلمائها ومثقفيها.

يلقي الشّاب/ة أعباء ثقيلة على الأهل خلال فترة الدراسة الجامعية، خصوصاً بعد الارتفاعات الفلكية في أسعار السلع والخدمات مع ثبات الدخول، دون أن يكلّف أحد خاطره بالسؤال: كيف يعيش ملايين الناس الذي بقوا في البلد براتب لا يتعدى مئة ألف ليرة (ما يعادل 25 دولاراً تقريباً) في الشهر؟ هي معادلة مستحيلة، إذ إن مصروف أي طالب جامعي لا يقلُّ عن مئتي ألف شهرياً كحدٍّ أدنى، يعرف ذلك كل من يعيش هنا الآن، بمن فيهم السادة المسؤولون طبعاً من كبيرهم إلى صغيرهم، لكنهم يتجاهلون الإجابة عن السؤال الدائم والملح والخطير: كيف ستعيش أسرة بمبلغ مئة ألف شهرياً؟!

ولأن الشّاب/ة يحسُّ بمعاناة أهله تجده يبحث دائباً عن أي عمل يساعده على إكمال دراسته الجامعية بعد أن يكون قد استنزفهم خلال المرحلة الثانوية بالدروس الخصوصية والدورات والنوط…الخ، لأن المدارس الحكومية لا تسدُّ شيئاً من متطلّبات التعليم بسبب الوضع نفسه (تدهور وضع الكادر التعليمي والإداري والخدمات في المدارس وغيرها)، ممّا يجبر الأهل على اللجوء إلى الدروس الخصوصية حتى يحصل ابنهم على علامة تؤهله لدخول الجامعة، وإلاّ سيكون في انتظارهم التعليم الموازي أو الجامعات الخاصة بأعبائها المستحيلة.

ماذا يفعل الشّاب/ة بنفسه في هذا الوضع العصيب.. بل المستعصي تماماً؟!

هل ينضم إلى عصابات النهب والسرقة والتشليح والتعفيش حتى يبدأ بتأسيس نفسه لبناء عائلة وتربية أطفال؟!

أم يذهب إلى أمراء الحرب الذين تحوّلوا بقدرة قادر إلى رجال أعمال وأصحاب ياقات بيضاء، يُشغّلون عندهم شباب وصبايا البلد بأحطِّ الأعمال، من تجارة المخدرات والجنس إلى تجارة الأعضاء، ثم يبيضون أموالهم في بناء (المولات) الحديثة والفنادق والمنتجعات الفاخرة كتتمة للمشهد الدرامي، وبأبخس الأجور طبعاً؟!

ماذا ينتظر شبابنا من مستقبل واضح وضوح الشمس بأنه لا إمكانية فيه لتوفير ليرة واحدة ولو بقي يعمل ليل نهار لدى الحكومة بأجورها البائسة، أو لدى القطاع الخاص الجديد الذي يمتلكه اللصوص من أثرياء الحرب بقذارة أعماله وسوء أجوره؟!

ليس مصادفة ان تزداد حالات الانتحار بين فئة الشباب نتيجة انسداد الأفق أمامهم.

لذلك ليس أمامهم من حلٍّ إلاّ السفر مهما بلغت التكاليف والمخاطر، فعلى الأقل يكون الشّاب قد وضع قدمه على عتبة حياة جديدة يحسُّ نفسه فيها إنساناً بكرامة واحترام حتى لو عانى قسوة الغربة والبعد عن أهله وناسه.

شبابنا وشاباتنا الآن يعانون الأمرّين، ويدفعون مبالغ طائلة من أجل الحصول على جوازات السفر، ليقصدوا أي بلد يستطيعون السفر إليه بعد أن أصبحت أوربا حلماً صعب المنال.

الآن أصبحت دول مثل مصر العراق وكردستان والإمارات، وحتى ليبيا والصومال، مقاصد وملاذات لهؤلاء الشباب، يقصدونها هرباً من هذه الحيتان التي ابتلعت البلد بما فيه ومن فيه لتتقيأهم جثثاً وأرصدة لهم في بنوك العالم.

إنها بلاد تستحق الرثاء فعلاً، بلاد تمزق روحها وترمي بأبنائها المقبلين على الحياة الى البحار، وتبقى هي بعجائزها وأطفالها رهينة بين أيدي القراصنة والتجّار، لكن إلى حين.

العدد 1107 - 22/5/2024