واقع الطفولة اليوم مؤشّرٌ لمستقبل البلاد

إيمان أحمد ونوس:

لا شكّ أن مستقبل أيّ بلد منوط بحاضر أطفاله، لأنه يحمل سماتهم بكل ما فيها من تباينات وتناقضات، فأطفال اليوم هم شباب المستقبل الذين سيبنون صروح الحياة بكل أبعادها إذا ما عملت الحكومات على بنائهم النفسي والقيمي والعلمي بناءً سليماً، وذلك من خلال منحهم كل احتياجاتهم ومستلزماتهم الحياتية وحقوقهم التي نصّت عليها اتفاقية حقوق الطفل في المادة 3/1: (في جميع الإجراءات التي تتعلق بالأطفال، سواء قامت بها مؤسسات الرعاية الاجتماعية العامة أو الخاصة، أو المحاكم أو السلطات الإدارية أو الهيئات التشريعية، يولى الاعتبار الأول لمصالح الطفل الفضلى).

فالطفولة تحتل مكانة خاصة لدى مختلف الحكومات في العالم، باعتبارها مرحلة يتمُّ خلالها تهيئة الكوادر البشرية للمساهمة في بناء المجتمع وتطوره في مختلف المجالات من خلال العناية بها وتقديم كل ما تتطلبه في مختلف النواحي الصحية والتعليمية والترفيهية للكشف عن المواهب والميول التي سيتمُّ استثمارها مستقبلاً. لكن، في الوقت ذاته تُعاني الطفولة في البلدان المتخلّفة من الإهمال والضياع والتشتّت، إضافة إلى أنها الحلقة الأضعف في المجتمعات التي تشهد حروباً ونزاعات داخلية، فهم يصبحون والحال هكذا وقوداً لتلك الحروب حين يتمّ تجنيد بعضهم للقتال، إضافة إلى مقتل الكثير منهم خلال العمليات العسكرية، ومن تبقّى منهم سيكون لقمة سائغة لعصابات الاتجار بالبشر أو تجارة الأعضاء، إضافة إلى تسوّل وتشرّد بعضهم، ما يقودهم للعمالة الخطرة التي لا تتوافق وبنيتهم النفسية والجسدية.

وبناءً عليه، وضعت الأمم المتحدة الاتفاقية الشهيرة بحقوق الطفل بعد أن أقرّت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن للطفولة الحق في رعاية ومساعدة خاصتين، مع الإشارة إلى ضرورة توفير هذه الرعاية في مختلف الظروف لاسيما تلك الاستثنائية كالحروب والكوارث الطبيعية. كما أكّدت هذه الاتفاقية في مادتها 28 على حق الطفل في التعليم، بينما نصّت المادة 29 على أن يكون تعليم الطفل موجهاً نحو تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكاناتها. وأكّدت في المادة 31 على الاعتراف بحق الطفل في الراحة ووقت الفراغ، ومزاولة الألعاب وأنشطة الاستجمام المناسبة لسنه. إضافة إلى ضرورة احترام الدول المشاركة لحق الطفل بالمشاركة الكاملة في الحياة الثقافية والفنية، والتشجيع على توفير فرص ملائمة ومتساوية للنشاط الثقافي والفني والاستجمام وأنشطة أوقات الفراغ.

ولقد كانت سورية من الدول التي انضمّت لهذه الاتفاقية في عام 1989 ووُضِعَت حيّز التنفيذ في عام 1990 غير أن ما يلفت الانتباه أن الدستور السوري يخلو من أيّة إشارة مباشرة للطفولة ما عدا مفردات عامة كالتي جاءت في المادة 20 من الدستور التي تنصُّ على:

(تحمي الدولة الزواج وتشجع عليه، وتعمل على إزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تعوقه، وتحمي الأمومة والطفولة، وترعى النشء والشباب، وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم).

إضافة إلى إيضاح هدف التعليم في سورية في المادة 28 التي جاء فيها: (يقوم نظام التربية والتعليم على إنشاء جيل متمسك بهويته وتراثه وانتمائه ووحدته الوطنية).

لم يقتصر الأمر على تجاهل الطفولة وحقوقها في الدستور، بل تجاوزه إلى واقع مرير عانى منه أطفال سورية منذ ما قبل الحرب بسنوات نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لاسيما خلال انتهاج الحكومات السابقة سياسات اقتصادية تحت عنوان اقتصاد السوق الاجتماعي سيئ الذكر، إضافة إلى الهجرات الداخلية المتزايدة التي جاءت من الشمال السوري خلال سنوات الجفاف والإهمال، فكان الأطفال هم الشريحة الأضعف التي تلقّت صفعات هذا الواقع بكل فجاجته وفجوره، وأتت الحرب ونتائجها المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات لتكون الأسوأ والأفظع وقعاً على أطفال سورية بشكل عام، فقد لاقى كثيرون منهم حتفه خلال المعارك الدائرة، وتمّ تجنيد بعضهم في العمليات القتالية في أماكن لا تلتزم بمعايير حقوق الأطفال ورعايتهم، وتعرّض الكثير من الأطفال للتهجير والنزوح واللجوء في مخيّمات لم تؤمّن فيها الحدود الدنيا لرعاية الأطفال زمن الحرب وفق ما نصّت عليه اتفاقية جنيف. ولم يقف الحال عند هذا وحسب، بل أصبح منظر أطفال الشوارع كمتسولين وعمال صغار أو مشردين منظراً طبيعياً لم يعد يُثير اهتماماً ولا يثير ضمير أحد لاسيما أولئك المعنيين بشأن الطفولة السورية، باستثناء حالات فردية طوعية حاولت انتشال بعض الأطفال من هذا الواقع الرهيب، إلاّ أنها لم تلقَ القبول والرضا فتمّ لجمها قبل أن تؤتي ثمارها.

بالتأكيد لا يمكننا إنكار ما قامت وتقوم به منظمة اليونيسف للطفولة بالتعاون مع وزارة التربية، لكن النتائج لم ترقَ بعد للمأمول منها، فنسب التسرب المدرسي، وكذلك نسب الأمية بين الأطفال إلى ارتفاع لم تشهده سورية سابقاً بسبب الإهمال وتجاهل المعنيين بالأمر لاحتياجات الأطفال ما بعد الحرب من رعاية نفسية وصحية وجسدية وتعليمية، إضافة إلى إهمال الجانب الترفيهي والتأهيلي الذي يحتاجه الأطفال في مثل تلك الظروف المريرة التي عايشوها. فإذا ما تعمّقنا بالأمر لا نجد ما يحتاجه أولئك الأطفال من حدائق عامة مزوّدة بالألعاب ما عدا استثناءات ضئيلة لا تُشكّل إضافة نوعية لهم، كذلك لم يتمّ تخصيص نوادي مجانية لاسيما في العطلة الصيفية في الوقت الذي ينتشرون فيه بالشوارع التي باتت ملاذهم الوحيد في ظلّ ما ذكرناه ولعدم قدرة الأهل المادية على وضع أطفالهم بنوادي خاصة لأن أسعار الاشتراك فيها بلغت مستويات خيالية دون حسيب أو رقيب من الجهات المعنية في الحكومة. وعليه نجد أن أطفال سورية قد تُركوا لقدرهم المأساوي بلا زاد يساعدهم على تجاوزه والاحتفاظ بخصوصية الطفولة المحتاجة دوماً لرعاية واهتمام نوعي بشكل عام، لاسيما زمن الحروب وتبعاتها المؤلمة بشكل خاص.

إن الخطر المحدق بمستقبل سورية ناتج أوضاع الطفولة فيها يكمن في أن أولئك الأطفال هم الثروة الحقيقية التي ستنهض من خلالها البلاد مستقبلاً، ذلك أنهم يتعرضون اليوم وبسبب تلك الحرب التي تحمّل وسيتحمّل أطفالنا تبعاتها على المدى القريب والبعيد أمراضاً اجتماعية وجسدية ونفسية تتمثل في:

  • الغرق طويلاً في أميّة تتسبب في تخلفهم وتمترس الفقر في حياتهم نتيجة هجرهم لمدارسهم والتحاقهم بالعمل باكراً بحكم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية لأسرهم.
  • انخفاض، وربما انعدام التطور المعرفي للطفلالذي يترك المدرسة ويتوجه للعمل، إذ إن تطوره العلمي يتأثر ويؤدي إلى انخفاض قدراته على القراءة، الكتابة، الحساب، إضافة إلى أن إبداعه يقل، وفي هذا مؤشّر خطير على مدى التخلف العلمي والاجتماعي والثقافي الذي سيلحق بالمجتمع القادم.
  • انعدام تقدير الذات واحترامها وكذلك الآخرين لدى أولئك الأطفال، إضافة إلى تلاشي إحساسهم بالارتباط بالعائلة نتيجة انخراطهم في العمل لوقت طويل، وربما النوم بمكان العمل وتعرضهم للعنف من قبل صاحب العمل أو من قبل زملائهم.
  • انعدام الشعور بالانتماء للجماعة، وتقلص القدرة على مساعدة الآخرين، إضافة إلى تنامي روح العدوانية لديهم، لاسيما أولئك الذين يتمّ تجنيدهم للقتال، مما يؤدي إلى الابتعاد كلياً عن القيم الأخلاقية والعاطفية، وعدم القدرة على التمييز ما بين الخطأ والصواب.
  • يؤكد الباحثون منذ وقت طويل على أن أنواعاً معينة من العمل يُسبب مشاكل نفسية،واجتماعية خطيرة للأطفال تتجلى بالانطواء والاكتئاب والشيخوخة المبكرة.

وبعد كل ما ذكرنا، يبقى السؤال المُلحّ والهام: ما قيمة كل الاتفاقيات والأيام الدولية لحقوق الطفل أمام هذا الواقع المُزري لأطفال سورية!؟

ألا يستدعي هذا الوضع المأساوي لأطفالنا تقديم بعض العون والمساعدة لمن يشكلون مستقبل البلاد الذي سيكون مظلماً إن تركناهم وحيدين يواجهون كل تلك العواصف والمآسي؟ ألا يستدعي هذا الوضع من المجتمع الدولي السرعة في إيجاد حلٍ عادل وسريع للمسألة السورية يُعيد لأطفالها الأمان والسلام والحياة الكريمة وفق مبادئ إعلان حقوق الطفل واتفاقية الطفل الدولية التي ما وضِعَتْ إلاّ من أجل طفولة آمنة تُعزز كرامة الإنسان في الحياة، فيغدو الاحتفال بعيد الطفل واقعاً حقيقياً بعيداً عن البروتوكولات الرسمية؟؟

 

العدد 1107 - 22/5/2024