من ينهار أولاً: الولايات المتحدة الأمريكية أم أوربا أم روسيا أم الدول العربية؟

تقوم الإمبراطورية الأمريكية على أساس استنزاف رؤوس الأموال من جميع دول العالم.

هو نظام معقد متعدد المراحل، يستفيد فيه أصحاب الامتياز في الهرم الغذائي الذي بنته الولايات المتحدة الأمريكية (في إطار منظمة التجارة العالمية) من تجارة البضائع إلى جميع دول العالم الأخرى، ثم بعد ذلك يرسلون جزءاً من الأموال المستلمة مرة أخرى إلى الولايات المتحدة.

الآلية بسيطة: تصدر الولايات المتحدة الأمريكية سندات لتمويل عجز موازنتها الحكومية المتضخمة. بينما تشتري أوربا واليابان والصين، التي تتمتع بميزان تجاري إيجابي (بمعنى أنها تصدر أكثر مما تستورد)، تلك السندات من ناتج أموالها الفائضة. علاوة على ذلك، تحتفظ دول أخرى باحتياطياتها على شكل سندات أمريكية، إلا أن المساهمين الثلاثة الرئيسيين، حتى وقت قريب، هي الدول المذكورة، وكانت أوربا حتى وقت قريب تشتري ما يصل إلى 80% من الأوراق المالية الأمريكية.

وهكذا، فإن العالم بأسره يموّل المستوى المعيشي المبالغ فيه للمواطنين الأمريكيين، وكذلك الإنفاق العسكري الأمريكي.

لكن، بحلول عام 2008، لم يعد ذلك كافياً، ومع اندلاع الأزمة العالمية في ذلك العام، اضطرت واشنطن إلى إضافة مصدر ثان لتمويل عجز الموازنة، ألا وهو طباعة الأموال غير المغطاة.

الآن، توقفت كل مصادر التمويل عن العمل، ووصل هذا النظام إلى مرحلة الشلل والتفكك.

فأصبح التضخم الخارج عن السيطرة يجبر الاحتياطي الفدرالي الأمريكي على التخلي عن (التيسير الكمّي)، أي طباعة الأموال غير المغطاة، والتي كانت تستخدم أيضاً لشراء سندات الخزانة. علاوة على ذلك، يخطط الاحتياطي الفدرالي لسحب 47.5 مليار دولار من التداول في حزيران (يونيو)، وزيادة حجم المسحوبات تدريجياً إلى 95 مليار دولار في أيلول (سبتمبر).

يتزامن ذلك مع انهيار نظام الضرائب الاستعماري. وأصبح ارتفاع أسعار السلع الأساسية يدفع نحو القضاء على الفوائض التجارية لأوربا واليابان وغيرهما من المانحين الماليين الأمريكيين، فقد بلغ العجز التجاري لليابان 6.5 مليارات دولار في أبريل، بينما بلغ العجز التجاري لأوربا في الربع الأول من عام 2022، 65.4 مليار يورو. نتيجة لذلك، بدأت أوربا واليابان في سحب رأس المال من ديون الولايات المتحدة الأمريكية.

ما زالت الصين تحافظ على ميزان تجاري إيجابي، ولكن على خلفية تجميد الأصول الروسية، بدأت الصين في التخلص من السندات الأمريكية مقدّماً.

كنتيجة لذلك، في آذار (مارس) الماضي، خفض حائزو الاستثمارات في الديون الأمريكية من الأجانب استثماراتهم في الديون الأمريكية بمقدار 97 مليار دولار!

بهذه الطريقة، فقدت الولايات المتحدة الأمريكية مصادر تمويل موازنتها العامة، بينما يعني رفع الضرائب الإجهاز على الصناعة المحلية.

إنه طريق مسدود، حالة (تسوغتسفانغ) Zugzwang في الشطرنج، حينما تؤدي جميع خطواتك المقبلة إلى تدهور الوضع.

إلا أن الوضع في أوربا أسوأ من ذلك. فإضافة إلى كل هذه المشكلات بسبب هرم الديون والطباعة غير المحدودة للأموال غير المغطاة، تضطر أوربا كذلك إلى دفع ثمن محاولة خنق روسيا بالعقوبات، وبالتالي ارتفاع أسعار المواد الخام. علاوة على أن الحفاظ على سعر فائدة سلبي، على خلفية زيادتها في الولايات المتحدة الأمريكية، يؤدي إلى تدفق رأس المال الأوربي إلى هناك، الأمر الذي يضعف اليورو، وبالتالي يزيد من سرعة التضخم في أوربا.

لكن، ومع ذلك، فالمرشح الأول للانتقال إلى عالم آخر ليس أوربا، وإنما البلدان النامية، التي تعتمد بشكل كبير على رأس المال الأجنبي والمواد الخام والأغذية المستوردة، ولديها ميزان تجاري ودفع سلبي.

وفي حالة النقص الحاد في الأموال لتمويل موازنة الدولة، سوف تضغط الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على الأموال من كل مكان.

وسوف يكون من بين الضحايا سوق الأسهم الأمريكية، التي هبطت بالفعل بنسبة 18% من ذروتها في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وسيستمر السقوط.

علاوة على ذلك، ستندفع أوربا نحو مزيد من زعزعة الاستقرار، ومن المحتمل أن يتم تكليف بولندا أو أي دولة أخرى في الناتو بالتحريض على صراع أكبر مع روسيا، بحيث يتدفق رأس المال الأوربي إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

وأخيراً وليس آخراً، بدأ المستثمرون الأمريكيون والعالميون في سحب رؤوس أموالهم من الأسواق النامية، ما يزيد بشكل كبير من تكلفة الاقتراض بالنسبة للدول العربية.

وكانت سيريلانكا أول من انسحب من الحلبة، لكن إذا قارننا المناطق، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي الأكثر عرضة للخطر. ولسوء الحظ، فإن المخاطر كبيرة للغاية بالنسبة لمصر، التي تحتفظ بأكبر معدل إيجابي في العالم على سنداتها، ما يشير إلى مجاعة مالية حادة.

لما تكون المنطقة العربية أول من يصل إلى المرحلة النهائية، أي مرحلة الأزمة الحادة، ثم أوربا، أما الولايات المتحدة الأمريكية، فستكون، كما يليق بمركز هذا النظام، آخر المتضررين.

تبدو روسيا، على هذه الخلفية، وكأنها جزيرة من التفاؤل المالي. فعلى الرغم من العقوبات، تتعزز العملة الوطنية، الروبل، وأصبحت أقوى عملة على هذا الكوكب، كما حصلت البلاد على ميزان تجارة خارجية إيجابي ضخم، بينما يستمر التضخم في الانخفاض.

بالطبع، وفي ضوء ذلك، تبدو محاولات الولايات المتحدة الأمريكية إعلان إفلاس روسيا ليس أكثر من مزحة.

مع ذلك، فمن الواضح أن ذروة المشكلات الاقتصادية لروسيا لا تزال في الطريق، ربما في الخريف. إلا أن مشكلات روسيا ليست نظامية، ويمكن التغلب عليها بمرور الوقت. وفي المواجهة بين رو:سيا والغرب، يكفي أن تصمد روسيا للعام المقبل، ولا أرى أي عوائق أمام ذلك.

المحلل السياسي ألكسندر نازاروف

العدد 1105 - 01/5/2024