ضرورة التنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية

يونس صالح:

حددت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2001 يوم 21 أيار من كل عام يوماً لحماية التنوع الثقافي وتعزيزه، تحت اسم (اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية)، وفي تشرين الأول عام 2005 وقعت الدول المنتمية لمنظمة اليونيسكو على اتفاق مماثل تحت اسم (حماية وتعزيز التنوع الثقافي) لم توقع عليه لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة الأمريكية. وإذ عكس الاتفاق رغبة الدول الموقعة في الحفاظ على هويتها الثقافية في مواجهة أخطار تغييب الخصوصيات والتمايزات الثقافية، فإنه يشكل دعوة إلى ضرورة احترام التعددية الثقافية.

وكما أن الثقافة كمفهوم ليست نسقاً نمطياً أحادياً، كذلك المجتمع ليس بناء ناجزاً وجاهزاً لاستقبال أو إنتاج ثقافة واحدة، ناجزة وجاهزة للاستخدام أو للتوظيف الاستعمالي، مادام كلاهما يعملان وفق منظومة من صيرورة المعرفة وتراكمها في حقول من التجريب، وخبرات البناء في سياق الحياة البشرية، فهما بالتأكيد يشكلان ركيزة التواصل المعرفي في تأصيل كل منهما لقاعدة التحضر المشترك في عالمنا.

لهذا تتعدد الثقافات داخل المجتمع الواحد، كما تتعدد المجتمعات في نطاق الثقافة الواحدة.. ومن داخلها يمكن تمييز ثقافات عدة، وحتى داخل المجتمع الواحد يمكن تمييز جمع من مجتمعات، تختلف وتتمايز، تأتلف وتتنافر، تتصارع وتتحد، تتنافس، ولكنها في تحاورها وتجاورها تخلق آليات تعايشها ومعايير التبادلية فيما بينها. فلم تعد الثقافة الواحدة واحدة، ولا المجتمع الواحد واحداً في إطار الإقليم الجغرافي أو الدولة أو الجهة أو الأمة.

وعلى أي حال فالحضارة البشرية واحدة، وإن تنوعت وتعددت ثقافاتها، ذلك هو المشترك الأوحد الذي لا يمكن له أن يتأسس.. ولم يتأسس قبلاً، منذ فجر التاريخ، وفق أحادية ذاتية، بل هي قامت- وتقوم- على أبنية الذاتية المشتركة لنزوع الإنسان، على اختلاف وتعدد وتنوع مجتمعاته وثقافاته وإنتاجاته وإبداعاته عبر العصور، وتوقه للتحرر من ضغط الحواجز والسدود التي حاولت تأطيره في نطاق الاستلابات المتواصلة، فكانت الحضارة هي القيمة العليا الوحيدة، التي كانت التبادلية وانتقالاتها المتعددة من حين إلى آخر، ومن موقع إلى آخر، تحمل سمة الاستمرار والتواصل المعرفي، لا نمط القطيعة والفواصل المعرفية بين ثقافات الحضارة الإنسانية المشتركة.

إن الأدلجة الصارمة المتصادمة مع ذاتها، لن تستطيع أن تنتج سوى أشكال صادمة ومشوهة من علاقات وبنى وموضوعات السياسة والاقتصاد والاجتماع، كما في الفكر والثقافة والتعليم والتربية، ما سوف يعكس حالة من حالات فقدان الهوية الناظمة للمجتمعات في ظل التشظي وتشابك المصالح وشبكة العلاقات الدولية غير المتكافئة أو غير المنسجمة، الآخذة في التعقيد يوماً بعد يوم، بفعل عولمة الفوضى الإيديولوجية، وعلاقات الهيمنة والتبعية، وفرض أنماط من تشابك وتداخل القمع الداخلي والخارجي ضد إرادات المجتمعات الوطنية، وما تعكسه التدفقات المالية والتبادلات غير المتكافئة من تحكم وهيمنة على الاقتصادات الوطنية، وإجهاض أي توجهات استقلالية في ظل معطيات السوق الدولية والتجارة الدولية.

ولئن تكن الديمقراطية واحدة من أبنية الثقافة في بعديها النصي المؤسس وطابعها العملي الممارس، فإن الطبائع الإيديولوجية الصارمة للديمقراطية وللثقافة على حد سواء تشكل واحدة من عوامل هدمها حين يجري اللجوء إلى إلغاء ومصادرة غنى التنوع والتعدد، وإلغاء ومصادرة غنى الاختلاف والائتلاف الكامن في تنوع الثقافات وتعددها، إلى حد لا يعود ممكناً التمييز بين ثقافة وأخرى..

وإذ تذهب السلفيات المحلية، دينية وسياسية وثقافية، إلى عملية إقصاء للسياسة في مجتمعات لم تتعرف عليها جيداً، ولم تمارسها أصلاً قدر ما مورست ضدها، فإن ما يجري وفي النطاق الدولي هو إقصاء مواز للسياسة، يستهدف منع تواصل ضفاف العالم من أن تشهد بناء موضوعات التعايش وقبول الآخر (الموضوعي) خارج الحدود، بل إن موضوعات الصراع باتت تمارس تحديداتها أكثر فأكثر داخل المجتمع الواحد والثقافة الواحدة.

الائتلاف الثقافي إذاً غير ممكن في ظل التأويلات، وأحياناً التعديلات- في النظر إلى أي نص من النصوص، ما دام الاختلاف الثقافي كامناً في النص الواحد، ما يشكل جوهر المغايرة الثقافية داخل الثقافة الواحدة، وبالتالي فإن الاختلاف الثقافي داخل فضاء الذات، معيار طبيعي لمغايرة الاختلاف والائتلاف في فضاء الآخر الثقافي، على الرغم من أن العولمة اليوم بشقها السلبي تحاول خلق ائتلاف تحت جناحها مغاير لذاته، قبل أي مغايرة أخرى في إقصائيتها وقراءتها الاستبعادية والاستبدادية لواقع الثقافة وواقع المعارف والعلوم الإنسانية.

ولهذا فإن التصور الحداثي والتجدد التحديثي هما الفضاء الواسع للتحولات الكبرى الثقافية والمعرفية والعلمية، المرتبطة بنمو الثقافات والمعارف وتلاقحها على امتداد المجتمعات البشرية.

 

العدد 1105 - 01/5/2024