في مديح الطلاق

حسين خليفة:

منذ نشوء الأسرة قام المجتمع البشري بتنظيم مؤسّسة الزواج عبر مراحل تطوره، ثم نشوء الأديان التي قامت بسنّ شرائع تنظم الزواج، وبالضرورة كان يجب أن يقترن تنظيم الزواج بتنظيم الحالة المعاكسة حين تستحيل الحياة الزوجية، وهو الطلاق. ثم جاءت القوانين المدنية بعد نشوء الدول الحديثة وفصل الدين عن الدولة بعد الثورة البرجوازية وعصر الأنوار في أوربا الذي رفع يد الكنيسة عن المجتمع والدولة وفق مقولة (ما لقيصر لقيصر وما لله لله(

كان قدر مجتمعاتنا الشرقية أنها بقيت في غالبيتها خاضعة للشرائع الدينية (الديانات السماوية الثلاث خصوصاً) في تنظيم علاقة الزواج والطلاق كل حسب ديانته أو مذهبه أيضاً، وبهذا خضع الجميع لشرائع أديانهم.

الطلاق هو إنهاء العلاقة الزوجية الشرعية بين الزوجين بسبب استحالة الاستمرار، وقد وضع المشرِّعون قواعد صارمة لذلك خصوصاً لدى الكنيسة الكاثوليكية التي كانت إلى وقت قريب تمنع الطلاق منعاً باتاً، وتعتبر الزواج رابطة أبدية أنشأها الرب بين الزوجين، وما أنشأه الرب لا يمكن للبشر أن يبطلوه. وقصة الملك الانكليزي هنري الثامن وطلبه الطلاق من زوجته كاثرين عام 1534 معروفة حن رفضت الكنيسة الكاثوليكية ترخيص طلاقه الأمر الذي كان سبباً لتأسيس الكنيسة الأنغليكانية.

في الديانة اليهودية تجيز الشرائع الطلاق بإشراف الحاخامات اليهود، والأمر يمر بإجراءات صارمة لكن في النهاية يصل الطرفان إلى إقرار شرعي بالافتراق والطلاق دون أي محاكم مدنية كما هو الحال في أوربا والدول التي تبنّت العلمانية في دساتيرها وقوانينها، ورغم أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي تدّعي العلمانية لا يوجد زواج وطلاق مدني كما هو الحال لدى غيرها من الدول العلمانية.

الشريعة الإسلامية التي تحكمها قوانين الأحوال الشخصية في جميع الدول الإسلامية (باستثناء دول معدودة) تجيز الطلاق وتنظمه بقواعد وإجراءات معروفة ومحدّدة، كما تنظم هذه الشريعة بالاستناد إلى نصوص دينية من القرآن والسنة حالات العودة إلى الزواج بين الزوجين المطلقين.

وما زالت النظرة الاجتماعية إلى الطلاق في أوساط عديدة مدعاة للإدانة والريبة والاستهجان أحياناً بسبب بعض النصوص التي تنظر بهذه النظرة إلى مسألة الطلاق، رغم أنه حل طبيعي ووحيد لحالات الاستعصاء في العلاقة الزوجية، ويعلم القائمون على تطبيق الشرائع ورجال الدين المتمسكون بها خطر استمرار علاقة زوجية يسودها التنافر والمشاحنات وأثرها على الأسرة، والأطفال خصوصاً، وعلى استقرار الطرفين وسعادتهما.

في مجتمع متعدّد الأديان والمذاهب كالمجتمع السوري اضطر المشرع إلى إنشاء محاكم لكل ديانة ولبعض المذاهب أيضاً، وذلك تحقيقاً لمتطلبات كل دين ومذهب وإجراءاتها بشان الزواج والطلاق.

وتعجُّ قاعات المحاكم وقصور العدل بمئات الآلاف من دعاوى الطلاق، ممّا يكلّف الطرفين تكاليف ووقتاً، ويخلق مآسي للأولاد خصوصاً في مرحلة الإجراءات البطيئة والمكلفة بينهما، حيث يكون كل طرف منهما “لا معلقاً ولا مطلقاً” كما يقول المثل المعروف.

والطلاق ضرورة لتنظيم إنهاء العلاقة الزوجية مع ما يتبعها من مسائل حقوق الطرفين والميراث وتربية الأولاد وغيرها، لكن مع تطور المجتمعات وتعقّد هذه المسائل وتشعّبها أصبحت الحاجة ضرورية وملحة لتطبيق الزواج المدني وإخراج هذه المسألة من يد المحاكم الشرعية ورجال الدين، وإنشاء محاكم مدنية إلى جانب المحاكم الشرعية كمرحلة أولى لمن يرغب في الاقتران مع شريكة حياته عبر الزواج المدني بعيداً عن تدخّل وسلطة رجال الدين والنصوص الشرعية، ومن المعروف إنّ معاملات الطلاق في المحاكم المدنية ميسرة إلى حدٍّ كبير ولا تستغرق سوى ساعات تتم فيها تثبيت الحالة في سجلات المحاكم والنفوس وتنظيم المسائل الأخرى عبر قوانين وضعية قابلة للتعديل والتطوير حسب تطور المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

ربما كان الزواج الشرعي (الديني) مقبولاً إلى حدٍّ ما في المجتمعات التي تعتنق ديناً واحداً، لكن في مجتمع متعدّد ومتنوع، كما هو حال معظم المجتمعات الحديثة التي تعدّدت فيها الأديان والمذاهب نتيجة الهجرات والتنقلات والاختلاط، لا بدَّ من كسر هذه الحلقة المغلقة والانطلاق إلى آفاق أرحب في تنظيم هذه المسألة عبر قانون مدني، وهو ما يتيح لأي مواطن اختيار شريكة حياته بغضِّ النظر عن دينها ومذهبها، إذ يضطر الذين يتزوجون من غير أديانهم وطوائفهم إلى الالتزام بأمور مخجلة، كتغيير دين الزوج أو الزوجة، قبل إبرام عقد الزواج في المحاكم الشرعية، مع ما يستتبع ذلك من ردود فعل لدى المحيط الاجتماعي لكلا الطرفين.

وبهذه الطريقة فقط يمكن تحرير العلاقة الزوجية من تحكّم النصوص المقدّسة الأبدية، وإكسابها المرونة والقدرة على التكيّف مع مستجدات الحياة.

العدد 1107 - 22/5/2024