الدراما.. صوت الناس وصمتهم؟!

حسين خليفة:

الدراما كلمة جاءت من المسرح أساساً، لأن المسرح هو الفن الأقدم بل هو أبو الفنون، وتعني فيما تعنيه تقديم حكاية بشخوص وحوار وحبكة عبر تمثيلها على الخشبة أو أمام الكاميرا، وهي أحداث تحمل مضموناً عاطفياً أو حالات مثيرة وغير متوقعة.
لكن، بسبب انحسار المسرح والسينما من الحياة الثقافية العربية وتراجعهما أمام الوافد الجديد (الدراما التلفزيونية أو المتلفزة) خلال العقود الأخيرة، أصبحت كلمة دراما تُفهم على أنها الدراما التلفزيونية ما لم تلحق بصفة أخرى توضح ماهيتها (مسرح، سينما، …الخ).

قوة الدراما التلفزيونية جاءت من أكثر من عامل، أهمّها سهولة دخولها إلى المنازل وتأثيرها على الكبير والصغير، المتعلم والأمي، ومردودها المادي الذي يستعيد تكاليف العمل خلال فترة قصيرة، فآلاف المحطات نهمة إلى الجديد الذي تملأ به ساعات بثها الطويلة وتجذب مزيداً من المشاهدين.

هنا سأحاول ملامسة الإجابة عن سؤالين هامين في الدراما والدراما السورية تحديداً:

  • ما هي حدود تأثير الدراما، أو بشكل أدق، ما هي المساحات المتاحة للدراما أن تقترب منها وتثيرها؟
  • وهل المطلوب من الدراما أن تقدم حلولاً للمشاكل التي تطرحها؟!

في محاولة الإجابة عن السؤال الأول لابدَّ من الإشارة الى العلاقة التأثيرية هنا تبدو بين المنتج والمتلقي أكثر مما هي بين المبدع والمتلقي، والمبدع هنا ليس شخصاً واحداً بل هو كامل الطاقم المساهم في إنجاز العمل الدرامي من كاتب أو كتّاب ومخرج وممثلين وفنيين وكومبارس أيضاً.

لماذا يطغى تأثير المنتج على المبدع في الدراما التلفزيونية تحديداً؟

لأنه هو صاحب المال، ودائماً من يدفع هو من يقرر الشكل النهائي بما يخص حدود القضايا المثارة في العمل الدرامي، فإذا كان المنتج جهة حكومية يصبح واضحاً تماماً أي سقوف واطئة سيتم إنجاز العمل تحتها، فسياسة هذه الحكومة وممارساتها واتجاهها الفكري هي التي تحدد ما على العمل أن يقوله وما لا يجوز قوله.

وبالتالي يكون العمل في هذه الحالة مؤطّراً ضمن إطار ضيق غالباً من جهة الطرح السياسي والاجتماعي، ولا يهم الجهة المنتجة تسويق العمل لاستعادة رأس المال الموضوع فيه، لأنه من ضمن الأموال المخصصة للإعلام والثقافة وهي دعاية بشكل مباشر أو غير مباشر للسلطة الحاكمة، أقول دعاية لا بالمعنى الفج والمباشر، بل بالمعنى التأثيري العميق وطويل الأمد على الأجيال الناشئة خصوصاً باتجاه تكريس قيم معينة ونشرها مع تحجيم قيم أخرى والتعتيم عليها (لنلاحظ الهبّة المرعبة لمسلسلات ما سمي بالبيئة الشامية، أو مسلسلات العصابات والمافيات، سواء تلك المدبلجة أو حتى المنتجة محلياً (الهيبة مثلاً)، مع علمنا هنا أن المنتج لهذه الأعمال ليست الجهات الحكومية دائماً لكنها هي من بدأت بإنتاج هذا النوع وشجّعت الشركات الخاصة على إنتاج أجزاء لا متناهية منها لأنها خالية من أي مضمون تأثيري إيجابي على المشاهد باتجاه طرح أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من تخلف وفقر وظلم وغياب للحريات الديمقراطية وسيادة اللون الواحد والفكر الواحد. وبالتالي تمارس دوراً تضليلياً وتنويمياً إذا شئنا التعبير بوضوح، وهو ما يريح أي سلطة من عناء مواجهة قضايا الناس التي تتحمّل هي مسؤوليتها سواء في تأمين عيش كريم للشعب وفرص عمل وسكن وخدمات، أو من جهة إفساح المجال أمام قوى المجتمع المختلفة من أحزاب ونقابات ومجتمع أهلي للمساهمة في بناء البلد والتمثيل في مؤسساته المنتخبة وليس المُعيّنة تعيّيناً كما هو الحال.

لا تختلف الأعمال المنتجة من الشركات الخاصة كثيراً عن الإنتاج الحكومي، بل أحياناً تتفوق الأعمال المنتجة من مؤسسات رسمية على الأعمال المنتجة من شركات خاصة في حدود ملامسة القضايا الشائكة التي تمسُّ حياة الناس ومستقبلهم. لكن ميزة الرأسمال في بحثه الدائب عن الربح السريع والكبير أنه يستغل أي هامش مُتاح لظرف أو آخر لطرح أعمال تجذب المشاهد المتعطّش لدراما تطرح قضاياه المعيشية، سواء تلك التي تتعلّق بحياته اليومية أو التي تتعلّق بقضايا وطنية عامة داخلية أو خارجية (قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والفساد السياسي والاجتماعي والاحتلالات العديدة لأجزاء من البلد …الخ) وهو ما حدث في هبّة الدراما السورية في بداية الألفية الثالثة مع إفساح المجال قليلاً لقوى المجتمع بالتعبير عن نفسها، فاستغلت بعض الشركات الخاصة والمملوكة لأشخاص مقربين جداً من مراكز القرار هذه الهوامش، وأنتجت أعمالاً تحمل لأول مرة انتقادات لاذعة وعميقة أحياناً للأداء الاقتصادي والسياسي للحكومة، لكنها لم تدم طويلاً كما هو معروف، فسرعان ما انتكست الاندفاعة الخجولة نحو انفراج في موضوع الحريات وعادت حليمة إلى عادتها القديمة في تكفير المختلف وتحريمه وتجريمه أحياناً.

في محاولة الإجابة عن السؤال الثاني سأختصر لأن المقام لا يتسع لمزيد من التفصيل.

بكلمة واحدة، أعتقد أنه ليس مطلوباً من الدراما أن تطرح الحلول، وهذا ينسحب على جميع الأشكال الإبداعية. لأن مهمتها إلقاء الضوء على المشكلة وطرحها على الرأي العام والحكّام على حد سواء، وهناك جهات مهمتها التفاعل مع ما يطرح، وطرح الحلول وتنفيذها سواء كانت جهات أهلية أو سياسية، معارضة أو مؤيدة، داخل البلد أم خارجه.

فمهمة الفن هي التعبير عن الناس وهمومهم وقضاياهم وتاريخهم وأحلامهم في إطار جمالي فحسب، وليست مهمته أن يطرح الحلول لأنه سيتحول حينها إلى منشور سياسي أو مداخلة اقتصادية سياسية اجتماعية، ممّا يُفقد العمل الفني هويته وجماليته، طبعاً لا نقصد حتماً ما أُثير منذ عقود خلال الصراع بين نظريتي (الفن للفن) و(الفن للمجتمع)، فالفن هراء فارغ إن لم يكن يحمل قراءة اجتماعية سياسية للواقع في قالب فني، كما أنه يصبح عريضة مطلبية أو بياناً سياسياً إذا أُخضِع للإيديولوجي أو السياسي.. فمساحة (اللعب) هنا والنجاح تتوقف على موهبة المبدع وثقافته وقدرته على التوفيق بين هذين المسارين، فلا يتحول إلى كلام عبثي لا منتم بلا لون ولا طعم ولا رائحة، ولا يسجن العمل الفني في قيود إيديولوجية صارمة في الوقت نفسه، ولدينا عشرات الأمثلة على أعمال حققت هذه المعادلة بدرجات متفاوتة، خاصة خلال فترة الصعود التي عاشتها الدراما السورية قبل أن تنكفئ وتتراجع مع بدء الحرب وارتفاع صوت الرصاص على صوت الأغاني والحوار.

العدد 1107 - 22/5/2024