أضواء على بعض إذاعات (الإف إم):  مالٌ وفير وهدرٌ للأثير!

 سليمان أمين:

في عام 2002 سادت في سورية أجواء من الانفتاح على العصر والتطوير، فسُمح بتأسيس الإذاعات الخاصة، وانطلقت عام 2005 أول إذاعة، وتكاثرت بعد ذلك هذه الإذاعات وسجلت حضوراً مكثّفاً في الأثير السوري.

ودون الدخول في تفاصيل تلك الإذاعات، بأسمائها وأعدادها واستمرار بعضها وتوقف بعضها الآخر بسبب الأزمة، فإننا سنتحدث عما آل إليه معظم تلك الإذاعات العاملة حالياً على الأثير، من أوضاع لا يُحسد هذا الأثير عليها، اللهم ربما باستثناء بعض البرامج في بعض تلك الإذاعات، مما يستحق الإشادة، نظراً لتمكُّن معدّيها وخبرتهم، وامتلاكهم لمواهب وقدرات ثقافية وإعلامية اجتماعية ملحوظة، أثمرت بتقديم حلول للكثير من المشاكل، وأسهمت في مد يد العون للعديد من شرائح الشعب.

بيوت إذاعية!

فأكثر ما يمكن ملاحظته في جلّ تلك الاذاعات، هو الصفة الأشبه بـ (العائلية) للفريق العامل فيها، فلا جديد يطرأ على الفريق منذ سنوات، من حيث تكرار بث الأصوات نفسها، بل من حيث تكرار بث الأنفاس نفسها للأصوات نفسها في بعض الأحيان، بما يعني التسجيل المسبق للبرامج وتكرارها ضمن البرمجة الزمنية للبرامج والفقرات، للإيحاء بالحضور الكامل للمذيع أو المذيعة في فترة البث.

ومن ناحية أخرى، ولأن الفضاءات الإذاعية الخاصة، يجب أن تكون فرصة ممتازة لتدريب الإعلاميين والصحافيين الجدد، فقد خابت تلك الفرصة إلى حد كبير وحرمت الكثير من الأصوات الشابة من التدرُّب والتمرين، فأهم تلك الاذاعات لم يتح للمتدربين الطامحين بالعمل المكوث لأيام، أو أسابيع في أفضل الحالات، بحجة أنهم لم يلبوا المطلوب ولم يرقوا إلى المستوى المنشود في الأداء الإعلامي والإذاعي.. وبالتالي فإن فرصاً ممكنة لعمل أولئك الإعلاميين في فضاءات مناسبة وإثرائها ثقافياً واجتماعياً، انعدمت.

مراسلون شكليّون

دأبت معظم إذاعات (الإف إم) المحلية على التعاقد مع مراسلين في المحافظات، لبث الجديد من الأخبار الخاصة بتلك المحافظات، وبالأخذ بعين الاعتبار نجاح بعضهم القليل، فإن البقية الباقية تتخذ الصفة الشكلية إعلامياً وتقنياً، فتقارير هؤلاء ضعيفة شكلاً ومضموناً، لا سيما أنها تُبث عبر الهاتف المحمول، مع ما يرافق هذا البث من تقطّع وتهدُّج في الصوت وتموّجه وغيابه في الكثير من الأحيان، إضافة إلى سوء الإلقاء من قبل المراسل، ليُحسب في النهاية تقريراً إعلامياً إذاعياً على جمهور المستمعين.

أما الأفضل في تلك الحالة، فهو تلخيص محتوى تلك التقارير –غير الواضحة- كتابياً، وبثها على الطريقة (المونتيكارلية) من قبل الإذاعة لكي لا يخسر المستمعون مضمونها.

 

الأخبار السياسية في (الإف إم) ومهمة (تأبين) الخبر!

في غالب الأحيان لا نجد فرقاً كبيراً بين نشرات أخبار (الإف إم) الخاصة ونشرات الإذاعات الرسمية، حيث التعاطي البطيء مع الخبر ونقله، وكذلك الأسلوب وضعف البحث الجدّي عن مصدر الخبر السياسي ومناقشته وتحليله، وبالتالي تفقد الإذاعة الخاصة هنا خصوصيتها، في الوقت الذي يمكن لها أن تقدم الخبر السياسي بكل أبعاده المنطقية، لا أن تؤبّنه مع ما فات من أخبار، فالصيغة الموحدة لا تلائم سوى المحطات الرسمية، بينما يلجأ المستمعون إلى محطات وقنوات أخرى عربية وأجنبية لفهم المحيط السياسي، بما يشبه عملية سحب البساط من تحت الإذاعات الخاصة لكيلا تمارس دورها المنشود في التوعية اللازمة، بعيداً عن خلط الأوراق والمفاهيم في زمن متعدد المنصات الإخبارية والأهداف الإعلامية.

جهل بالتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا

ولما ارتأى بعض إذاعات (الإف إم) شق طريق إخباري سياسي خاص به – كما لاحظنا خلال الأزمة-، فشل فشلاً ذريعاً وكاد يودي بثوابت الجمهور، وخاصةً من نواحي (جغرافيا) و(ديموغرافيا) البلاد وتاريخها، فتأثر الكثير من معدي البرامج الاخبارية والسياسية بوكالات الأنباء الأجنبية، التي منها ما كان ذا اتجاهات مخالفة للثوابت السورية، فتعممت مصطلحاته السياسية على غير الضليعين والمطلعين من بعض إعلاميي (الإف إم)، بل وجد بعض الوكالات المذكورة من بعض إذاعات (الإف إم) مسرحاً لعرض أفكاره وخرائطه الخاصة بسورية المستهدفة.

 

أشرطة (كاسيت) مملّة

بسبب غياب الكفاءات الإعلامية المطلوبة –رغم وجودها- وبسبب العوز الثقافي الملحوظ والنقص المعرفي الواضح داخل معظم إذاعات (الإف إم)، تلجأ تلك الاذاعات إلى التعويض عن فقر برامجها ببث الأغاني بالدرجة الأول، ثم المسرحيات والمسلسلات والخطب الدينية.. فالراصد لموجات (الإف إم) والباحث عن محطاتها لساعات طويلة وطويلة جداً، لا يجد سوى أغانٍ تُبث هنا وهناك دون مناسبة، ودون ارتباط بفقرات إذاعية ما أو أفكار يقدمها المذيع أو المذيعة.. ولعل ذلك أكبر دليل على الفشل، فما حاجة المستمعين إلى (أشرطة كاسيت) –جلها مكرر وممل- في الوقت الذي يمكن فيه لأي مستمع العثور على أغنيته المفضلة –أو مسرحيته ومسلسله وخطبته- بلحظة واحدة عبر الإنترنيت؟!

أما مردُّ ذلك الفشل فيحمل في طياته –إلى جانب العوز الثقافي وعدم التخصص- قلة الإنفاق على البرامج رغم وفرة التمويل، فتتجمع (ثروة) الإذاعة الخاصة –في هذه الحالة- بيد فئة محددة –بل محدودة- من (العائلة) الإذاعية، لا سيما تلك التي تستطيع تأمين قدر لا بأس به من الاعلانات التجارية.

وهنا تصبح الإذاعات الخاصة شبه طاردة للكفاءات، لا تستقبل جديداً ولا كل من يحمله، كما تدير ظهرها للاقتراحات وأفكار التطوير، وكأنها مالك حصري للأثير.

ظاهرة (معجبات المذيع) وألفاظ الحب والاشتياق!

أعطى (ديكور) بعض إذاعات (الإف إم) الخاصة، ووضعها البرامجي الخاص، إيحاءً لبعض المذيعين بأنه يستطيع إضفاء أجواء جديدة على البرامج (الساهرة)، التي تستقطب جمهور المستمعين وتشاركه هاتفياً، فنشأت ظاهرة الفتيات والسيدات اللواتي يتحدثن هاتفياً مع المذيع غير المرئي، ويتبادلن معه نوعاً من المشاعر والعبارات، لم تكن في يوم من الأيام مألوفة على الهواء، وتلك المشاعر والعبارات قد تكون طبيعية ومناسبة لموقف معين ضمن البرنامج، ولكن تكرار الأمر أوصله إلى درجة الابتذال، ويبدو بعض البرامج وكأنه تسجيل صوتي لمعجبيْن مغرَم كلٌّ منهما بالآخر، أما المفارقة المضحكة هنا، فهي أن عدوى تلك البرامج الليلية قد انتقلت إلى إذاعات رسمية، فمن المضحك والمثير أن نسمع مذيعاً بصوت خشنٍ أجشّ -من المختصين فقط بنشرات الأخبار والبلاغات الرسمية- وهو يتفوّه بعبارات مثل (حبيبتي) و(دخيل قلبك) و(تسلميلي) على الهواء مباشرة!

خاتمة

كان من الممكن لإذاعات (الإف إم) الخاصة أن تعبّر عن وجه البلاد الحقيقي أكثر مما يبدو في برامجها، كما كان بالإمكان أن تُستَثمَر تلك الاذاعات بشكل أكبر لصالح تشغيل الكفاءات وخدمة الجمهور، ولئن شقّ بعضُها هذا الطريقَ باقتدار ونجاح، إلا أن الكثير منها بحاجة إلى إعادة النظر بسياسته البرامجية وكوادره البشرية ومستواه الثقافي والمعرفي، على الأقل، اغتناماً لرواج تلك الإذاعات في زمن التقنين الكهربائي، علّ تداركها للخطأ ونجاحها في المستقبل يحافظ على رواجها فيما لو انتهى زمن التقنين!

العدد 1105 - 01/5/2024