هل سينقلب السحر على الساحر؟

كتب رئيس التحرير:

في خضم التحليلات والمتابعات لتداعيات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، يمكننا استخلاص أمرين اثنين تصدّرا قائمة طويلة من الاستنتاجات التي توصل إيها معتدلو السياسة الدولية.

الأول: وحدانية القطب الأمريكي لن تحمل الأمن والسلم والاستقرار إلى العالم.

والأمر يتلخص بأن أمريكا تحتاج إلى الحروب مثل احتياجها إلى تريليونات السندات الأمريكية، إنها تختلق الأعداء كما تختلق شعارات العدالة وحقوق الإنسان، وبأنها عاجزة ضمن إمكاناتها الذاتية على قيادة السياسة والاقتصاد العالميين دون اختراع (بعبع) متنقل يبرر ابتزازها لدول العالم وشعوبها وتمارس دور الدركي.

الثاني: أن أوربا مستقرة ولديها علاقات ودية لتبادل المصالح مع روسيا والصين، هي الخطر الأكبر الذي تخشاه أمريكا، وتبذل جميع جهودها السياسية والاقتصادية والعسكرية كي لا تتحول أوربا إلى فضاء لا يحتاج إلى (ناتو) ولا إلى صواريخ عابرة ولا إلى وصاية ما وراء الأطلسي.

قد لا تؤدي العملية العسكرية الروسية إلى نهاية حقبة القطب الأوحد بشكل ميكانيكي، لكنها ستفتح أمام شعوب العالم الطريق إلى علاقات دولية لا يهيمن عليها، ولا يحدد مسارها مطبخ الإدارة الأمريكية، مما يؤدي شيئاً فشيئاً إلى انحسار دور أمريكا كشرطي العالم.

سيف العقوبات الجائرة الذي سُّلط على رقاب السوريين، بعد مواجهتهم للغزو الإرهابي المدعوم من تحالف دولي بقيادة القطب (الأوحد)، أشهرته الإدارة الأمريكية في مواجهة روسيا حتى قبل عمليتها العسكرية، كخطوة استباقية، ثم فرضت عقوبات كانت تنتظر القرار، لكن الخصم اليوم كان روسيا، وكما واجه السوريون غطرسة الأميركيين، ورفضوا الركوع أمام مخططاتهم، صمدت روسيا وشعبها، بل عملت، بما تمتلكه من قدرات عسكرية واقتصادية، على تحويل هذه العقوبات إلى خسائر وأزمات اقتصادية ومعيشية في أمريكا وأوربا والدول التي ساندت المخطط الأمريكي.

في البيان الروسي – الصيني المشترك قبيل أشهر يقرر الرئيسان الروسي والصيني (العمل على إعادة توزيع القوة في العالم).

كذلك فإن التجمعات الاقتصادية الإقليمية الدولية (بريكس – آسيان) تستعد للتخلص من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.. وبرزت أصوات زعماء وخبراء في أوربا الغربية ذاتها تطالب بنزع هيمنة الدولار على العلاقات الاقتصادية الدولية، تحاشياً لتشظي أزمات الأمريكيين الاقتصادية التي تدفع أثمانها أوربا كحليفة لواشنطن، وشعوب العالم بأسره.

هكذا إذاً.. إعادة توزيع القوة في العالم، ونزع هيمنة الأمريكيين على الاقتصاد العالمي، إنهما الجناحان اللذان تحلق بهما الإدارة الأمريكية.

أمريكا تستجدي المدد اليوم من فنزويلا والسعودية، لوقف انعكاس عقوباتها على الاقتصاد الأمريكي والاقتصادات المحلية، بعد الإجراءات الروسية المواجهة لهذه العقوبات، ونعتقد أن دولاً فاعلة في الحلف الأمريكي ستتملص من الالتزام بهذه العقوبات، فمن يده في النار، ليس كمن يراقبها من وراء المحيط.

قائمة الحروب والتدخلات الأمريكية في شؤون دول العالم، تشهد على الوحشية والغطرسة التي تتسم بها السياسات الأمريكية في التاريخ الحديث، ونحن في سورية خبِرنا، وما زلنا نشهد تجليات هذه السياسات الهادفة إلى الاحتلال، ونهب الثروات، وتقسيم بلادنا بالتعاون مع الحليف الاستراتيجي (أردوغان)، وحلفاء محليين لم يستوعبوا حتى اليوم استحالة تحقيق أهدافهم، في ظل تمسك السوريين بوحدة بلادهم وجميع أطيافهم الإثنية والاجتماعية، وفي ظل الانحسار التدريجي لدور حليفهم الأمريكي في تحديد مصائر الشعوب.

نعم.. السحر سينقلب على الساحر هذه المرة، وسيشكل المنعطف الروسي أرضية مناسبة لعالم متعدد الأقطاب قد يحمل السلم.. والاستقرار.. وربما العدالة والخير لشعوب العالم.

العدد 1105 - 01/5/2024