لم يعد ملاذاً!

وعد حسون نصر:

الوطن بات، في نظر كثيرين، أشبه بكهف مظلم، لا ندري ماذا ينتظرنا كلما حاولنا التعمّق لداخله أكثر، باردة أضحت جدرانه، حزينة سماؤه فقد غادرتها الطيور، أشجاره بالرغم من بقائها شامخة لكنها هشّة من داخلها يابسة، لم تعد تطرَب لتغريد الدوري عليها، تخشى أن تصبح وقوداً في المدافئ، جداول مائه العذب باتت في أفواه البعض علقماً بطعم الملوحة. لم يعد الوطن ملاذاً نشتهيه، بل أضحى سجناً لأحلامنا، قتل طموحاتنا، برده عشّش في نفوسنا، صلّب مشاعرنا، فلم نعد نتعرّف لغة الحب لأن البرد كعدوّ لا يرسل حباً. الظلام الدامس الساكن منازله وشوارعه حجب عن عيوننا ألوان الفرح، لم يعد الوطن يتسع لنا، لأحلامنا، لطموحاتنا ولضحكات أطفالنا، بات، في حالات غير قليلة، يشبه مقبرة تُدفن فيها كل آمالنا بطيب العيش، فكيف لتلميذ أن يهوى صفّه إذا كانت مقاعده مُكسّرة وجدرانه باردة وزجاجه شاحب يخفي الشمس من ورائه؟ ومع ضغوط الحياة عادت عصا المُدرّس معه إلى الصف.. لا للتأنيب والتعليم بل لردِّ جزء من قهر مدفون خلّفته بضع قطع نقدية كتعويض آخر الشهر، لذلك تشعر مع كل صفعة وكأن بين المعلّم والتلميذ ثأراً. وكيف للعامل أن ينتظر الصباح فيخرج مبتسماً إلى عمله إذا كانت آلات المعمل واقفة بسبب فقدان الكهرباء؟! فأصبح هذا العامل هو الآلة، وكل الجهد الذي يبذله لا يتقاضى مقابله سوى أجر بسيط لا يكفي لحاجاته!!

بالتأكيد، هذا الألم اليومي في مواجهة الحياة يشعر به ويتعرّض له ويعانيه المعلم والجامعي وربّ الأسرة والسيدة والمربّية والأم، لأن عبء الحياة نسف من تفكيرنا مقوّمات وطن، مسؤولوه سلبوا منّا حُبَّهُ فغدا حضنه هاوية سقطت بها أحلامنا وبعض مبادئنا وأخلاقنا، وبتنا نخشى أن نسقط جميعنا، فإن سقطنا فسوف يسقط الوطن، لأن الأخلاق عماد الوطن وبها تنهض الأمم، فلا تدعوا الأوطان تسقط بالجوع والذل والقهر والبرد، فلم يبقَ لوطني سوى الأخلاق لينهض من جديد، بعد أن شحّت من نفوسنا فكرة المواطنة والوطنية والشعارات، فالجوع كافر.. لا تدعونا نجوع فنكفر، وعندئذٍ قد ننسى الإيمان بالوطن.

العدد 1107 - 22/5/2024