لستُ منغولياً.. أنا إنسان!

حسين خليفة:

كُنّا فتياناً نعبر أمام منزلهم في الشارع الرئيسي المؤدي إلى المدرسة، عائلة ثرية بمقاييس المدينة الصغيرة، تسكن منطقة راقية، فيها الطبيب والصيدلي والمهندس، إضافة إلى طفلة تستفيق مع الفجر وتخرج إلى الشارع، تعترض المارة وتتحدّث بكلمات غير مفهومة، فيعطيها بعضهم قطعة بسكويت أو قطعة شوكولا، أو ما تيسّر من مال لتشتري هي ما تشهي.

كان يُخيفنا في البداية شكلُ وجهها وجسدها السمين وقصرها اللافت وطريقة حديثها، لكن مع تكرار رؤيتنا لها على الطريق أمام منزل العائلة اعتدنا عليها، بل خلقت حالة من الألفة مع وجودها إلى درجة أننا كنّا نفتقدها إن لم نجدها ونمازحها أو نعطيها ما تيسر.

طبعاً كانت عائلتها تحاول منعها من الاختلاط بالناس قدر استطاعتها بسبب الخجل من وجود فتاة بهذه الحالة فيها، لكن لا يمكن، ولا يجوز أيضاً، حبس أيُّ مخلوق بسبب حالة مرضية.

غالباً ما كانت الأم الملهوفة على الطفلة تخرج وراءها وتعيدها إلى البيت، وهي ترفع يدها بالدعاء لربها لعلّه يشفيها أو لمساءلته عن سبب إصابة طفلة بريئة بهذا المصاب.

في تلك الأيام كانت الحالة تُسمّى بالبله المنغولي، وهي تسمية ظالمة وجارحة، فالفتاة عاقلة، لكن الحالة المرضية التي نتجت عن خلل جيني (الانقسام المفرط في الكروموزوم 21 من الحبل الصبغي أثناء تكوّن الجنين) تؤدي إلى قصور عقلي وجسمي، فتختلف تفاصيل الجسم عن الأصحاء ويبقى نموها العقلي قاصراً عن مجايليها، أي تبقى أقرب إلى طفل كبير.

مثل معظم الأمراض المستوطنة في الجسم أو الوراثية أو الناتجة عن خلل صبغي، لا يمكن ولا يجوز تحميل المصاب بمتلازمة داون أي مسؤولية عن وضعه المَرَضي، وبالتالي معاملته كقطعة زائدة عن الحاجة، أو كخطأ مطبعي لم تتم إزالته من كتاب الحياة، فبقي ندبة تشير إلى خلل في تفصيل صغير فيها، خلل يلازم المصاب طوال عمره القصير، ويلازم العائلة أو الأهل بوجود (عاهة) في المنزل.

لماذا أسماها العلماء والباحثون بـ(متلازمة) ولم يسمّوها مرضاً أو عاهة (كما كان يسمى في زمن سابق بالبله المنغولي)؟

هناك فروق كبيرة وعديدة بين كل من المرض (Disease) والمتلازمة (syndrome)  والاضطراب (Disorder)، فالمرض حالة طبية ناتجة عن استجابة فيزيولوجية مرضية للعوامل الداخلية أو الخارجية ممّا يؤدي إلى تعطيل أو خلل في الأداء الطبيعي أو في العمليات الفيزيولوجية داخل الجسم، ومن الأمراض ما يكون وراثية أو فيزيولوجية أو بيئية أو نقصاً، وتكون مُعدية أو غير مُعدية.

أما المتلازمة فهي تستخدم للتعبير عن مجموعة من الأعراض والعلامات التي تُميّز أو تشير إلى مرض معين (مثل متلازمة نقص المناعة المكتسب، أو متلازمة داون، أو متلازمة استوكهولم…الخ).

الاضطراب هو بداية ظهور خلل معيّن في وظيفة من وظائف الجسد، ويمكن اعتباره بداية المرض إن لم يُكتشف ويتمُّ علاجه.

طبعاً هناك تفاصيل كثيرة في الجانب الطبي التوصيفي ليس مكانها هنا، وسيقتصر حديثنا على الأثر الاجتماعي للمتلازمة والتعامل معها ضمن بيئة تفتقر إلى أبجديات الوعي الصحي والتعامل الصحيح مع مثل هذه الحالات.

متلازمة داون أصبحت الآن في عصر العلم والوعي الصحي والاجتماعي والإنساني حالة غير مُستهجنة كما كانت، وليست مدعاة للحزن أو للخجل وإخفاء المصاب أو المصابة عن أعين الناس، بل هناك الكثير من الحالات استطاعت الأمهات تحديداً بجهود خارقة، وبصبر وأناة تميزان الأم، من تقريب المصابين بهذه المتلازمة من حالة الأصحاء إلى حدٍّ كبير، بالتعاون مع المدارس والجمعيات المهتمة بهذه الحالات.

فرغم العمر القصير الذي يعيشه المصابون يمكن أن نجعل تلك السنوات القليلة محطّات للتطور والخروج من ربقة الإحساس بالنقص أو بالعجز، فيترك بصمة ويشارك في النشاط المجتمعي والاقتصادي أيضاً كفرد فاعل ومؤثّر.

ولا أدري ما إن كانت مصادفة أو ترتيباً أن يتواقت اليوم العالمي لمتلازمة داون مع يوم الأم العالمي (عيد الأم) في الحادي والعشرين من آذار، فالأم تستطيع بما لديها من مخزون هائل من الحب وطاقة كبيرة من الصبر والتحمّل أن تكون عوناً للمصاب/ة، فتطرق جميع الأبواب، وتضع كل رصيدها من الحب والحنان والاهتمام، لتجعل منه فرداً فاعلاً وشخصية كاملة تتحدّى واقعها وتخرج إلى الفضاء العام بكل ثقة واقتدار.

إنها ليست معجزة، إنها إمكانية قائمة، ولدينا عشرات الأمثلة الملموسة عن حالات تمارس حياة أقرب الى الطبيعية خلال العمر القصير للمصاب بهذه المتلازمة التي نأمل أن يصل التطور العلمي الى مرحلة يجعلها مجرّد ذكرى أليمة للآلاف الذين عانوا منها عبر التاريخ، ولا شيء عصيّ أمام العلم.

العدد 1107 - 22/5/2024