عن فسحة أمل لا تُرى.. لماذا لا ينتحر السوريون؟

حسين خليفة:

حين تبحث في غوغل عن موضوع انتحار السوريين، تجد عشرات الأبحاث والمقالات والإحصائيات عن هذا الموضوع المقلق والخطير طبعاً، ومعظمها يأتي عن الأسباب متسائلاً: (لماذا ينتحر السوريون؟)، محاولاً تفنيدها ومحاولة اقتراح الحلول لها.

لكن السؤال الذي ينبغي أن يُسأل برأيي هو: لماذا لا ينتحر السوريون؟!

نعم، لماذا لا ينتحرون؟!

أيّ خيط واهٍ ما زال يربطنا بالحياة؟!

بل أيّ حياة هذه التي نحياها تستحق التمسّك بها والكدح من أجلها؟!

إنه السؤال الأول الذي يطرحه المنتحر على نفسه، قبل أن يصل إلى قرار الانتحار: ما جدوى الحياة؟! هل تستحق كل هذا التعب؟ أليس الموت أرحم منها؟!

لقد دفعَنا من يسوسون البلاد والعباد إلى طرح هذا السؤال مراراً، بتضييق مساحات العيش وفسحات الأمل، بل لم تبقَ ثمة فسحة للأمل بعد عشر سنوات عجاف من حرب وخراب ونزوح وتهجير وفقر وخوف وجوع وذلٍّ عميم.

إذ أصبح القول الشعري المعروف لمؤيد الدين الحسين بن علي بن عبدالصمد المعروف بالطغرائي، وقد كتب أشهر قصائده (لامية العجم) معارضاً بها قصيدة (لامية العرب) للشنفرى الشاعر الصعلوك، رثى فيها حاله التي انقلبت من عزٍّ الى ذل، وهي حالنا نحن السوريين في مختلف بقاع الأرض، فقد أرهقتنا سنوات الاستبداد الطويلة، ثم جاءت الحرب لتفرّقنا أشتاتاً، ونكاد نستطيع القول بثقة إنه لم تبقَ عائلة سورية لم تتوزعها الأمصار.

سنختار من (لامية العجم) أربعة أبيات تختصر الأسباب التي تدفعنا جميعاً إلى الزهد بحياة لا تسرّ صديقاً ولا عدواً:

فيمَ الإقامةُ بالزوراءِ لا سَكنِي * * *       بها ولا ناقتي فيها ولا جملي

أُعلّلُ النفسَ بالآمال أرقبُها           * * *      ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ
لم أرتضِ العيشَ والأيام مقبلةٌ       * * *       فكيف أرضى وقد ولّت على عجلِ

ما كنتُ أوثرُ أن يمتدّ بي زمني     * * *       حتى أرى دولةَ الأوغاد والسفلِ.

الانتحار موجود منذ القدم، وقد تداولته قصص التاريخ والأديان، لكنه كان موجوداً كحالات فردية ناجمة عن أمراض نفسية حيناً أو أزمات روحية أحياناً أخرى، لكنها تصبح مدعاة للتوقّف عندها وقراءة أسبابها حين تصبح ظاهرة، وتنتشر بين الشباب الذين يفترض أنهم مقبلون على الحياة، بل وبين الشّابات تحديداً.

تُشير الإحصاءات التي تقوم بها منظمات دولية وإنسانية إلى ازدياد حالات الانتحار أو محاولات الانتحار بين السوريين في مختلف مناطق وجودهم، تحت كل السلطات التي تقتسم البلاد والعباد.
وحسب (الهيئة العامة للطب الشرعي) فقد بلغ عدد حالات الانتحار خلال عام 2020 نحو 124 حالة (76 ذكور، و48 إناث).

أما في الشمال الخارج عن سيطرة الدولة فتقدّر منظمات إنسانية وحقوقية ارتفاع عدد حالات الانتحار عام 2021 بنسبة 86% عن العام السابق، وبين كل خمس حالات كان هناك (طفل أو طفلة)، وهو مؤشّر خطير طبعاً.

لن نغوص كثيراً في الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية لأن هناك الكثير من الحالات لا يتمُّ الإبلاغ عنها وتوثيقها، خصوصاً بين النساء، وغالباً يكون الدافع وراء إخفائها هي التقاليد والأعراف التي تشير بأصابع الشكِّ والريبة إلى الفتاة المنتحرة، فتزيد مصيبة أهلها.

لكن من الواضح أنّ هذا التزايد الخطير لحالات الانتحار يعود أساساً لحالة انعدام الأمل نتيجة عوامل عدة، أهمها التدهور المريع في الأحوال المعيشية للغالبية العظمى من الناس مقابل ازدياد جنوني لثروات تجار الحرب واللصوص ومتسلقي الأزمات.

يجرُّ هذا التدهور أهوالاً عدة منها الهروب إلى الجريمة والمخدرات والدعارة، ونتيجة انسداد الأفق يلجأ الشباب إلى الانتحار كطريق وحيد للخلاص.

حين نعرف أنّ الشخص في سورية يحتاج إلى أكثر من خمسمئة ألف ليرة سورية شهرياً كي يعيش في حال متوسطة، وأن دخل الموظف الشهري هو مئة ألف ليرة يجب أن تكفي عائلة يبلغ متوسط عدد أفرادها خمسة أشخاص (أي مصروفها الشهري الوسطي 2.5 مليون ليرة)، وهي معادلة مستحيلة الحل.

وحين نعرف أن العائلات الفقيرة تضطّر لتزويج بناتها القاصرات لأول عريس يتقدّم لهن، خشية الفقر والجوع، ولو كان في عمر أبيها أو عاطلاً عن العمل أو غير مؤهل للزواج أخلاقياً أو جسدياً.

وتزداد قائمة المُقْدمات التي تجعل السؤال الذي طرحناه في البداية: (لماذا لا ينتحر السوريون؟) هو السؤال الأكثر دقّة من عكسه.

لقد جعلت الحرب والقتل والخراب والتشرّد والنزوح والخوف المتزايد والفوضى المستشرية وانتشار الجريمة والدعارة والفساد المتغوّل، هذه كلّها حياتنا أقرب الى معجزة يومية، وتراكم هذه المعجزات وأعباء الحياة ومخاطرها يجعل الهروب إلى موت سريع حلاً ولو إلى حين، عندما تضع البلاد أقدامها على عتبة الخلاص في حلٍّ سياسي يوحّد السوريين ويعيد بناء سورية ديمقراطية علمانية لجميع أبنائها.

العدد 1107 - 22/5/2024