ماضون نحو الشمس

عباس حيروقة:

رغم القهر.. الفقر.. الفقد.. رغم كلّ التوابيت المكدّسة في مداخل مدننا وقرانا الممعنة بعويل الأمّهات.. الأرامل.. اليتامى.. رغم كل الخراب الجاثم فوق صدر النهارات المتشحة بتهويدة أمّ فوق قبر ضمَّ جثمان ابنها الوحيد، رغم.. ورغم هذا السواد المدلهمّ الذي يلفُّ العالم.. كلّ العالم.. ويلفّنا بشالات الأمّهات وهنّ يودّعن أبناءهن.. بالأهازيج.. بالزغاريد.. وبالشعر الباذخ بالحنين وبالانتماء، رغم كلّ هذا وذاك إلّا أن ثمة ابتسامات لأطفال البلاد وهم ماضون نحو نهارات جديدة طافحة بالأناشيد..

وثمة شمس تبتسم لحبّات الندى المتراقصة فوق وريقات وورود تفتحت فوق تربة قبور سَكَنَتُها من الأنبياء ورسل حقّ وخير وعدالة.. سكنتها قامات من الضوء ومن النور.. سكنتها الشهداء.. أجل الشهداء. رغم كل هذا وذاك.. كنا ومازلنا وسنبقى كسوريين من هنا.. من على هذه الأرض المقدّسة نعلن وعلى الملأ وللعالم كل العالم أننا أبناء الحياة.. أبناء الحنطة والأنهار.. نشيّع شهداءنا ونزفّهم قرابين في معابد نورانية الوطن ومفردات فصيحة عُمّدت من نورانية وقدسيّة وقداسة ترابه، هذه الطقوس لا تختلف أي اختلاف عن مهرجانات من ماء وضوء أقمناها هنا وهناك.. عن أعياد احتفلنا بها ومازلنا وسنبقى ما دمنا نصفّق للعصافير وننشد لأطفالنا أهزوجة الانتماء بحناجر من نايات ورباب. نشعل الشموع ونحن نشيّع شهداءنا.. نرتّل القداديس.. ننثر القمح والزيت والماء الطهور على جثامينهم، ونرتّل كل أناشيد السلام التي تليق بعراقة هذا الوطن العظيم وبأبناء هذا الوطن الباذخ بالنور وبالخير وبالجمال.. كنا وما زلنا وسنبقى أوفياء لحضارتنا الممتدة لآلاف آلاف السنين.. أوفياء لأساطينها وسدنتها ومؤسسيها.. أوفياء للعقول الفعالة التي أسست وأنتجت واخترعت أبجديات وسفناً اخترقت عباب البحر حاملة للعالم كل العالم أرقى مفاهيم الحب والحرية والحضارة والسلام.. أوفياء للعقول التي مزجت أول الألوان.. واخترعت أول المدونات الموسيقية.. ورسمت أول حقل ودجنت البذور والغراس والحيوانات.. أوفياء للسواعد التي بنت القلاع والمدن التاريخية.. أوفياء لذواتنا، لأرواحنا، لتاريخنا، للسوريين الأوائل.

ولا يتأتى هذا الوفاء وهذا العرفان.. ولا يمكن أن يتعزز إلا من خلال الوفاء لسورية اليوم.. سورية الأم المكلومة الثكلى والمثخنة والطاعنة بالحزن وبالتوابيت.

الوفاء لها من خلال العمل على تعزيز ثقافة الانتماء.. ثقافة المواطنة.. ثقافة القانون.. ثقافة الحرية.. ثقافة البناء..  كواجب وطني أخلاقي مجتمعي، وأيضاً وقبل كل شيء ثقافة المحبة التي نادى بها وعمل عليها كل الرسل والأنبياء والفلاسفة، وغيرهم من أصحاب العقول والقلوب الطافحة بالجمال.

وعلينا أن نؤكد للعالم كل العالم أن السوري هو من سلالات قمح وزيتون وماء، وأننا أبناء الغمام الجميل.. نعشق المطر والينابيع، ونغنّي كلّ صباح للشمس وللحقول، ونطيّر عند الغروب كل الحمام ويمام البيادر وبيوتات الحنين!

العدد 1105 - 01/5/2024