رعايا.. لا مواطنون؟!

حسين خليفة:

المواطنة هي علاقة متبادلة بين الحاكم والمحكوم، بين الفرد والدولة التي ينتمي إليها بصفة المواطنة، ولهذه العلاقة أُسسها التي تقوم عليها ومقوّماتها التي تستمر بها.

فالفرد_ المواطن ينتمي إلى دولة يخضع لقوانينها ويحترم رموزها ويدافع عن وجودها واستمرارها وتطوّرها، لكن ما الذي يأخذه هذا المواطن بالمقابل حتى يكتمل مفهوم المواطنة؟

يجب أن تكون الدولة مستوفية لمعنى الكلمة ومدلولاتها، وذلك بامتلاكها وتمثّلها لثقافة الدولة التي تؤكّد على المشاركة والمساواة أمام القانون عبر ممارسة الديمقراطية. وهكذا فإن الدولة التي تخالف هذه المعايير لا تُنتج مواطناً، بل عبداً مُطيعاً صامتاً، وهي دولة أقليّة تُثري على حساب الأكثرية التي تحجب عنها حقّها في المشاركة وصنع القرار، ممّا يخلق خللاً في مفهوم المواطنة، ويسقط عن المواطن واجباته تجاهها.

فالمواطنة تكاد تكون لصيقة بالديمقراطية تكتمل بها وتنتفي بغيابها. فالمواطن الذي لا يتمتّع بحرية إبداء الرأي في شؤون مجتمعه وبلده، ولا يُشارك بفعالية في الانتخاب والترشيح لمؤسّسات الدولة، لن يكون انتماؤه إليها انتماءً حقيقياً، لأن شرط المواطنة هو أن تُحقّق الدولة الكفاية لمواطنيها بتأمين كل مستلزمات العيش الكريم لهم، وممارسة الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية للفرد ضمن المنظومة الاجتماعية، وبما يُعزّز تماسكها وتنوّعها. وهذا لا يتحقّق إلاّ بتحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس.

كل هذه الحقوق والواجبات يجب أن ينظمها دستور مكتوب ومُقَرّ من قبل غالبية أبناء الشعب، حتى يكتمل المفهوم ويصبح حقيقة واقعة.

إذا قمنا بمعاينة هذه الأُسس التي مررنا عليها باختصار شديد على المجتمع السوري ماذا سنلاحظ؟

سنتحدّث أولاّ عن سورية قبل عام 2011، عام الزلزال الأكبر، فقد كان هناك استقرار شكلي قائم على ثنائية الخوف والطمع، الترهيب والترغيب، وهو ما تقوم عليه أي سلطة استبدادية، فيصبح الفرد مُخيّراً بين القبول بما تُقدّمه له تلك السلطة مهما كان بائساً، بل والاحتفال به، مقابل ألّا يتعرّض للعنف والأذى والحرمان من الحرية أو حتى من الحياة.

ومن المعلوم أنّ أيّ حالة مستقرّة لا تقوم على قوانينها الداخلية الطبيعية هي حالة هشّة ومؤقّتة مهما طال بها الزمن.

وبالعودة إلى مفهوم المواطنة نجد أنها لم تكن مُحقّقة في معظم جوانبها خلال العقود الأخيرة التي تلت التجربة الديمقراطية في بلدنا(1954 ـ 1958)، فقد قام نظام حكم الوحدة باغتيال التجربة الديمقراطية وإقامة حكم استبدادي أمني استمر بعد الانفصال والانقلابات العسكرية المتتالية التي جاءت تحت شعارات برّاقة ورنّانة استطاعت جذب قطاعات واسعة من الناس إليها، إذ قبلت هذه القطاعات بالتنازل عن عقدها الاجتماعي وحقّها في اختيار مؤسّساتها وطريق تطوّر بلادها، مقابل وعود بتحرير فلسطين وإقامة نظام اشتراكي عادل، لكنها سرعان ما اكتشفت عُقم الشعارات وأنها لم تكن سوى غطاء لإقامة دولة استبدادية استمرت حتى يومنا هذا.

ثم جاءت الحرب الكارثية التي تلت الحراك الشعبي السلمي، وكانت نتيجة لتغلّب قوى العنف والتفرّد على قوى الإصلاح والتغيير السلمي على ضفتي الصراع، وتسبّبت بدمار البلد وخرابه، وهجرة حوالي نصف السوريين إلى خارج البلاد، ونزوح نصف من تبقى داخلياً بعد الخراب الكبير في العمران والاقتصاد.

وهكذا فقد مفهوم المواطنة كل معنى له في ظلّ سيادة منطق القوة والغلبة، وتغوّل أثرياء الحرب وسيطرتهم على مفاصل الحكومات، واشتداد القبضة البوليسية على مناحي الحياة في مختلف مناطق البلاد على اختلاف القوى المسيطرة فيها.

لم يعد المواطن يبحث عن دولة تُحقّق له الرفاهية والمشاركة والعقد الاجتماعي مقابل واجباته تجاهها، بل صار يبحث عن سلامته الشخصية هو وعائلته والحلول الفردية لمواجهة أعباء الحياة والمعيشة التي أصبحت فوق طاقة الجميع.

هكذا تحوّل المواطنون إلى رعايا أو رعيّة تأتمر بأمر الراعي وتلحقه إلى حيث يريد دون تردّد أو تذمّر، وبالتالي صار مفهوم المواطنة كلمة فارغة من المضمون، ومجرّد أوراق تُثبت انتماء هذا الإنسان إلى مكان ولادته ونشأته فحسب، وصار حلم الهجرة يراود الصغير والكبير كطريق وحيد للخلاص.

لم تعد بقايا الدولة ملتزمة بتأمين المتطلبات الأساسية لحياة المواطن من غذاء ودواء ومسكن وتعليم ومحروقات وغيرها، ولم يعد من تبقى من المواطنين معنيين بالانتماء إلى دولة لا تقدّم لهم شيئاً إلّا من باب الولاء والطاعة النابعين من الخوف أو الطمع، الخوف من بطش القوى المُتحكّمة به، أو الطمع بأخذ بعض الفتات من جبل الفساد والنهب الذي تستأثر به فئة قليلة هي أثرياء الحرب وشركاؤها من المتنفّذين.

للأسف، نحن لم نعد مواطنين، بل أصبحنا أقرب إلى قطيعٍ جائعٍ مُهان يفترس بعضه بعضاً، ويُقاد إلى حيث يُريد له الرعاة.

العدد 1107 - 22/5/2024