مستقبل سورية ولبنان.. المصير المشترك

صفوان داؤد:

تتعدد التعريفات المتعلقة بمفهوم (الدولة)، لكنها تتفق جميعها على نقطة مهمة؛ أنها نظام يرتبط به الأفراد من خلال تنظيمات متطورة يُمنع من خلالها استغلال السلطات والصلاحيات. ويعتبر أنجلز أن الدولة ليست سُلطة مفروضة على المجتمع من الأعلى، إنما هي ثمرة المجتمع ذاته في مرحلة معيّنة من تطوره. والدولة بالمعنى الحديث لم تعد مجرّد شعب وحكومة وإقليم، إنما هي شكل من أشكال النُّظم المؤسساتية تمتلك حقوقاً وسيادةً متأصلتين تمنحها سيادة على إقرار شؤونها الاقتصادية والقضائية بنفسها، وتشرف على المثل المشتركة للحياة ومصالح الشعب بأغلبيته الساحقة، وليس على مصالح فئة أوليغارشية انتهازية ضيقة، أو لخدمة إيديولوجيا بائدة.

هذه المقدمة هي للتوضيح أن الدول التي لا تتبع العمل المؤسساتي يُستشرَف من مستقبلها مخاطر حقيقية.

الآن، الاقتصادان السوري واللبناني في أدنى مستويات الإنتاج، ومعدلات البطالة هي الأعلى على الإطلاق، والسلم الأهلي هشّ للغاية. وعادة ما تكون هذه المخرجات هي مؤشرات المراحل الأخيرة ما قبل الانهيار المجتمعي. إن تعرّض مجتمع ما لعوامل سياسية أو صراعات طويلة الأمد سوف تؤدي بالضرورة إلى إضعاف الروابط المجتمعية أو العقد الاجتماعي القائم بين أفراده. هذا الضعف في حال استمراره دون وضع حل سياسي له يؤدي إلى تفاقمه من ثم إلى انهياره، وهو ما يعرف في علم الاجتماع بـمصطلح (الانهيار المجتمعي). ويجادل العلماء والأكاديميون في العلوم الإنسانية حول العامل الحاسم المسبّب للانهيار النهائي، والإطار العام المتفق عليه هو الطمس القسري من قبل السلطة للعوامل السياسية والثقافية التي يمكن أن تجعل المجتمع قادراً بشكل أو بآخر على تشخيص مشاكله وضبطها، ووضع الحلول المناسبة بشفافية تامة. هذه القدرة لا تُبنى إلا عبر نظام مؤسساتي حيوي وبنية سياسية مرنة، وكلا الشرطين غير موجودين في الحالتين السورية واللبنانية. بدلاً من ذلك نلحظ استفحال العنف كصيغة للعلاقة بالآخر في الحالة السورية، وفقدان الهوية الثقافية الموحدة في الحالة اللبنانية. وتسيّد مفاهيم الإكراه وقانون الأقوى داخل بنية السلطة وهو ما مثّلته سيّدة من صُلب القيادة السورية في لقاء تلفزيوني معها منذ بضعة ايام، أو ما يعكسه تأثير القوى المسلحة داخل الساحة اللبنانية على قرارات تشكيل الحكومة هناك. يُضاف إلى كل ذلك، المستويات غير المسبوقة في انتشار الفقر والفساد، وانهيار النظام التعليمي والعدالة الاجتماعية وجودة الخدمات العامة، ما يعطي استشرافاً مستقبلياً عن انهيار متوقع لكلا البلدين خلال العامين أو الثلاثة أعوام المقبلة. انهيار يتجه بالمجتمعين السوري واللبناني إلى شكل أكثر بدائية في التنظيم، تغيب عنه ثقافة الدولة الحديثة.

مؤشرات انهيار المجتمع السوري، بدت أكثر وضوحاً خلال العامين الماضيين مع تمايز المجتمع إلى طابقين منفصلين بشكل حادّ: مجتمع أثرياء الحرب الجدد، والغنى الفاحش الذي يعيشه؛ وله منتجعاته ومولاته ومشافيه ومدارسه والآن مخابزه. ثم الطابق الشعبي الواسع، المسحوق المنضوي تحت رحمة شركة (تكامل) وتحت شروط التقنين اللاإنسانية. فيما أصبحت الطبقة الوسطى بحكم المنقرضة. غير أن أكثر ما يلفت الانتباه هو ازدواجية علاقة مسؤولي الدولة السورية مع هذين المجتمعين، والتحيّز الفاضح للطابق الأول. هذا ما وجدناه عندما هرع الشهر الفائت كبار مسؤولي الحكومة في دمشق إلى مدينة اللاذقية عقب افتتاح منتجع بحري فارِه والاحتفاء به، فيما ٩٩ فارزة ٩٩ من سكان هذه المدينة الساحلية لا يستطيعون دخوله. إن مسألة استدراك الوضع القائم حالياً وتجنب الوصول إلى عتبة الانهيار لا يتطلب فقط تطبيق القوانين بحذافيرها، إنما هناك ما يتجاوز ذلك، هناك قيم عامة وثقافة وروح المسؤولية. وهناك أدوار أخرى لا يمكن تهميشها؛ الأكاديميون، والنخب الثقافية، والمجتمع المدني، والإعلاميون، جميعهم يلعبون دوراً مهماً في استقرار المجتمع، عبر كشف علله ونقدها. وإن كان للإعلاميين حظوة في لبنان، فإنهم في سورية لم يكونوا يوماً كذلك.

تسبّب غياب مادة المازوت في تحول قسم كبير من السوريين إلى استعمال الخشب للتدفئة، الأمر الذي أدّى لاحتطاب الغابات والمساحات الزراعية المحدودة، فيما تنشط مافيات لبنانية على الحدود مع سورية في تهريب الفيول وأسطوانات الغاز. وكلا البلدين يعانيان من أزمة سيولة خانقة لتوفير إمدادات الطاقة للسوق المحلية. في هذا المثال يمكننا أن نرى الصعوبة التي تواجه المجتمعين السوري واللبناني، وهما يقفان أمام انعدام نجاعة الخطط الوطنية والاتجاه أكثر فأكثر نحو حلول فردية وآنية، ستكون بالضرورة على حساب الجماعة، تؤدي تالياً إلى صراع يزداد ضراوة على الموارد المحدودة المتاحة واستنزافها، كما هو الحال في المثال السابق؛ إن لإزالة الغطاء النباتي عواقب بيئية واقتصادية كارثية، وهذه بدهية لا جدال فيها. ويظهر أن مؤسسات الدولة ستكون طرفاً في الصراع لكن مع الأقوى، في تحالف يبدو محتوماً بين ثنائية قوى القرار داخل السلطة وقوى رأس المال خارجها. هذا التحالف ليس وليد الأمس، إنه ثقافة صانعي القرار في كلا البلدين. هذا يفسر أن لبنان لا يصنع شيئاً، وهذا يفسر سقوط الصناعة السورية بالضربة القاضية في أول مواجهة انفتاح اقتصادي مع تركيا، والسبب أن أصغر منشأة إلى أكبر مجموعة صناعية لا يمكن لها البقاء في السوق دون فساد وتجاوزات، ودون حماية أو رعاية من هذا التحالف الذي أوجدته طبيعة البنية السياسية نفسها للبلدين. وهو يفسر لماذا لم نجد حزباً سياسياً حاكماً أو غير حاكم في سورية أو في لبنان خرج ليواجه مواطني بلده بقراءة موضوعية وشفافة لأوضاعهم البائسة، بدءاً من تقييد الفرد بكمية استهلاكه لمادة الخبز، كما هو الحال في المعتقلات الجماعية، وليس انتهاءً بموت مواطن على قارعة الطريق بسبب إطلاق نار حي احتفالاً بنجاح أحدهم في امتحانات غير نزيهة.

الواقع يقول حالياً إن المنظومة السياسية في كلا البلدين، وكما تعكس النتائج الاقتصادية والتنموية، عاجزة ولا تملك أي استراتيجية أو حلول أو قدرة على تمييز الواقع عن المقولات النمطية والقوالب الإيديولوجية. وإنه خلال السنتين المقبلتين سيكون البَلدان على موعد مع تنامٍ حادّ في الجريمة المنظمة وموجة جديدة من الهجرة.

سورية ولبنان المصير واحد شرير بنهايته، ونأمل أن يحصل حل سياسي ما، يقيهما من مصير قد لا يتوقعه أسوأ المنجمين ولا أعظم المتخيّلين.

العدد 1104 - 24/4/2024