الحقيقة من الإطلاق إلى النسبية

ريم داوود نخلة:

نسعى وبشكل دؤوب للوصول دائماً إلى حقيقة أي بحث أو عمل نقوم به، كما نهدف وباستمرار خلال تربية أبنائنا لإيصالهم إلى حقيقة الأشياء، فهل تساءلنا يوماً عن معنى هذا المفهوم الضخم الذي شغل بال المفكرين والفلاسفة وحير العلماء؟

إذا ما بحثنا عن كلمة حقيقة في اللغة العربية، فسنجد المعاجم تعرفها كالتالي: الحقيقة هي اليقين، أو هي الشيء الثابت والصحيح، كما نجد تعريفاً لها بأنها واقع الأمر وجوهره.

بينما انطوى تعريف الحقيقة في الفلسفة على عدة معان، فمنهم من عرفها على أنها المعرفة والوجود، وأنها تكمن في البرهان كما عبّر عنها أرسطو.

بينما نجدها أي (الحقيقة) عند الماركسية لمؤسسها كارل ماركس الذي اعتمد المادة في فلسفته التي تتمثل بانعكاس الواقع في الفكر، فقد جاءت هذه الفلسفة كممارسة سياسية ونظرية اجتماعية تهدف لتحسين أوضاع العمال المهضومة حقوقهم، والقضاء على الرأسمالية والاستغلال.

 

الحقيقة عند أفلاطون:

اسم غني عن التعريف ينضح بما فيه من علوم ومعارف، فمجرد أن نستجلب هذا الاسم يمر أمامنا شريط من الفكر والفلسفة والعلم. لقد بحث أفلاطون في مفهوم الحقائق أو الحقيقة من خلال نظريته الشهيرة (نظرية المثل) التي تصب في جوهرها على التمييز بين الحقيقة والشيء الظاهر، ويرى أفلاطون من خلال نظريته أن هذا العالم الذي نعيشه هو عالم محسوس غير حقيقي، بل هو مستنسخ عن العالم الحقيقي، فهذا العالم مليء بالأخطاء والشوائب تحكمه ميزة التغيير، في حين يرى في عالم المثل أو عالم الأفكار، الذي أطلق عليه اسم عالم الحقيقة، يرى فيه الكمال، فهو عالم لا أخطاء فيه كما أننا لا نختبره بالحواس كما العالم المادي المحسوس، لذلك نجد الأفلاطونية تدعو الإنسان للرجوع إلى العقل والتأمل في سعيه للمعرفة والحقيقة، فالحواس والمادة متغيران.

 

.. عند ديكارت:

أنا أفكر إذا أنا موجود، من منا لم يسمع بالمقولة الشهيرة، لكن كثيرين منا لا يعرفون صاحبها.

بحث ديكارت في الوجود والحقيقة من وجه نظر عقلية، فقد ربط الوجود البشري بخاصية التفكير، ومتى توقف الإنسان عن التفكير توقف عن الوجود. لقد قدم ديكارت أطروحات عديدة مازالت تدرّس حتى أيامنا هذه في الجامعات، أبحاثاً ودراسات شكلت حجر الأساس في الهندسة التحليلية.

 

.. عند كانط:

لقد جاءت دراسات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط مغايرة لما تم طرحه، فقد وجد كانط أن الحقيقة نسبية وستبقى نسبية ما دمنا نجهل الأمور الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة)، وما من شيء في هذا العالم على الإطلاق يمكن اعتباره جيداً في ذاته سوى الإرادة الخيّرة.

أمام هذا الفكر العظيم الذي نهلنا منه القليل لتوضيح مفهوم الحقيقة من وجهة نظر فلسفية، وأمام هذه الاستنتاجات المتعددة حول نسبية الحقيقة وواقعيتها لا بد لنا من التساؤل: هل الحقيقة واحدة أم أن هناك عدة حقائق؟

وهل يمكن للحقيقة النسبية أن تتحول إلى واقعية إذا ما استخدمنا البرهان عليها، كما فعل أرسطو، معتمداً على البرهان كقوة تدعم الحقيقة بشكل كامل؟

وهل يمكننا النظر في الحقيقة باعتبارها على عدة أنواع، كما هو الحال في الحقيقة الدينية التي تحدث عنها ابن رشد، موضحاً أنها واحدة ذات صور ومظاهر متعددة تعتمد على تباين واختلاف نظرة الناس في التصديق؟

والحقيقة العلمية التي أكد غاستون باشلار أنها لا تتقدم إلا بتجاوز عوائقها الأبستمولوجية، وأنها تبقى حقيقة نسبية مشروطة بتطور العلم والتكنولوجيا وما وصلوا إليه، إذ تتغير مفاهيمها باستمرار بهدف بلوغ الدقة والكمال.

ونجد الحقيقة الواقعية تعبر عن الوجود بشكل مستقل عما هو مدرك، أما الحقيقة المادية كالحقائق الفيزيائية التي نجدها في العلوم التجريبية أكدت اتفاق العقل مع الواقع، وصولاً إلى الحقيقة المطلقة والشاملة، التي نجد رديفاً لها في الحقائق الأبدية التي لا يمكن دحضها.

من خلال هذا البحث المبسط عن طبيعة الحقائق وأنواعها، نجد أن الحقيقة قيمة سعى الفلاسفة إلى إعطائها صبغة الفضيلة وجعلها غاية بحد ذاتها، كما نجد ارتباطاً وثيقاً بين ما طُرحه من أزمان على لسانهم، وحياتنا وعلاقة وجودنا بين عالم الحياة الدنيوية أو عالم المحسوسات المتغير والرقاد أو الموت على رجاء حياة أخرى قد تكون ضمن عالم المثل والمجردات، كما أن ربط الوجود البشري بضرورة التفكير كحقيقة لهذا الوجود، كما عبر عنها ديكارت، مستعيناً بفكرة الضمان الإلهي التي أكد من خلالها ديمومة الله واتصافه بالكمال والحكمة، اللذين يحولان دون وقوع العقل البشري في الخطأ.

إننا نحيا ضمن عالم يعج بالتغيرات والتبدلات التي تضفي على حقائقه صفة النسبية، ذلك أن هذه الحقائق تتغير وفقاً للتطور البشري والتقدم العلمي في كل زمان ومكان، كما تتغير تبعاً للوعي الإنساني الذي يقود بالضرورة إلى تقدم في العلوم والأبحاث، فما كان في الأمس حقيقة مطلقة نجده اليوم باطلاً أو متغيراً حسب تقدم العلوم والتكنولوجيا التي نشهدها.

العدد 1104 - 24/4/2024