تلك الشتاءات

عباس حيروقة:

هذه الأيام الشتوية الباردة نسبياً من شهري كانون الأول وكانون الثاني تحملني بشكل لا شعوري إلى أيام الشتاء القاسية في أريافنا النائية البعيدة، في قرانا الممعنة في النقاء والبراءة والعفوية. فشتاء الأرياف يختلف عن شتاء المدن، فكم من مساءات كانت تمرّ أحدّث فيها أولادي عن تلك الشتاءات، عن جماليات وعذوبة أصوات المطر الغزير الذي كان يطرق على أبوابنا، نوافذنا، سطوح البيوت وإن كانت طينية فلها إيقاعها الممعن في الحنان والحميمية، رغم قساوتها.. أصوات المزاريب الممتلئة التي مازالت تعشش في مسمعي مع أصوات الرياح الشديدة.. العواصف القالعة التي كم من مرة كسّرت واقتلعت أشجارنا، أو منظر الغمام الجميل الذي كم لفّ تلالنا، فترتسم أمامنا لوحات ولا أجمل لوحات خصنا الله بها، أو نصاعة بياض الثلج الذي يشابه قلوب أبناء وطني.

شتاءات كانت تبني في قلبي جدران صومعة أبدية.. ومئذنة مازالت حجارتها تلمع في روحي وناقوسها يقرع كنبضات قلبي.. نعم، شتاءات تلك الأيام.

 شتاء الحكايات والسهر الطويل تحت الغطاء لتوفير الشيء البسيط من المازوت.. شتاء السوالف والحكايات، حكايات الجدّات والأمهات حكايات الزير، والشاطر حسن، و العصفور الأخضراني، تلك الحكايات التي كنّا نحياها بكل واقعيتها وفنتازيتها! نتفاعل بها ومعها.. نبكي لبكاء البطل ونفرح لفرحه نستعدّ للقتال كاستعداده وننكسر لانكساره أمام المعجزات.‏

شتاءُ المجالسِ.. مجالس الرجال وأحاديثهم المتكررة في كل سهرة وكل بيت، حول الزراعة والفلاحة وكيفية حماية المنازل من احتمال سيل جارف قادم، إضافة إلى لعب الورق: الباصرة، الختيار، الاستعمار… الخ من ألعاب كنّا نتجمع لممارستها ومشاهدتها، وغالباً ما كنت أنا المشاهد وحسب، وإن تسنى لي اللعب فحكماً من الخاسرين لا مناص!

بعد كل هذا كنا نخلد للنوم مبكراً، فمنّا من ينام، ومنّا من يساهر رقصات قنديل أو ضوّ الكاز المرفوع إلى الحائط.. الرقصات المترامية على الجدران بأحجام وأشكال مخيفة ومرعبة وغريبة.. كنتُ أنّى تقلبت تتراءى لي أشكال وحوش مرعبة. أجلس، أنظر إلى وجوه مَنْ حولي.. الكلّ نيام فأدسّ رأسي تحت الغطاء ليسرقه النوم.. فيفشل، أبقى مرهوناً للخوف إلى أن أعجز.. وأغفو.

شتاء الحب الشديد والحزن الشديد والخوف والبرد والفقر الشديد.. شتاء انقطاع الوقود من كاز ومازوت.. فالغاز لَمْ يكن منتشراً عندنا آنذاك. على بابور الكاز كان الطبخ ونستعمله مدفأة من جهة ثانية عند انقطاع المازوت.‏

أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام القاسية التي كنا نحياها بأقدام عارية وأجساد لا يسترها سوى ما تيسر لنا من أثواب أشقاء ضاقت عليهم وصارت لنا.. الأيام التي رغم كل هذا وذاك كنا نحياها بحب وود واحترام وسلام وسلامة.. الأيام الطافحة خيراً ونبلاً وأصالة.

العدد 1104 - 24/4/2024