خواطر حول العلمانية

الدكتور إليان مسعد:

التعريف الأكاديمي: العَلمانية مذهب قانوني ـ سياسي يتميز بإبعاد النفوذ الديني عن سياسات الدولة، ولهذا المذهب جانب نظري فلسفي بوصفه نتاجاً للنظر العقلي، وجانب عملي بوصفه ينشأ عن جملة من الممارسات والإشكاليات التي تتصل بالعلاقة بين الدين والدولة، بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية، بين رجل الدين ورجل السياسة.

والعلمانية لفظة عربية مستحدثة مقابلة لكلمتي laïcisme الفرنسية وlaizisms اللاتينية المتأخرة التي تعني الرجل العامي أو ابن الشعب الذي لا يلبس الكسوة الدينية، أي الشخص المدني غير المتفهم والمتعلم والمتفقه دينياً، مقابل كلمة clerc التي تعني رجل الدين. وهي مشتقة من العَالَم، وليس من العِلْم، ونقيضها الإكليريكية نسبة إلى الإكليروس أي طبقة رجال الدين، والإكليريكية مذهب من يقول بضرورة تدخّل رجال الكهنوت والدين في الشؤون العامة.

وتعني العلمانية من الناحية القانونية عدم كفاءة الكنيسة والسلطات الدينية في الشؤون العامة والمجال الزمني، كما تتضمن بالمقابل عدم كفاءة الدولة في المجال الروحي والديني، فحرية العقيدة والدين شرط أول ومطلق، لذلك بانتفائه تنتفي العلمانية من أساسها، لكن هذا لا يعني أبداً أن الدولة العلمانية دولة لا دينية، أو دولة تنكر الدين، بل هي دولة حيادية لا تميز ديناً ما عن دين آخر.

أما فلسفياً فهي تعني تأسيس حقل معرفي وسياسي واجتماعي لإدارة البشر والأرض مستقل عن الغيبيات والماورائيات والافتراضات الإيمانية السالفة، أي مستقل عن المرجعيات المتعالية عن البشر التي تعطي نفسها حقّاً إلهياً لتنظيم العلم والعالم وتضع لحرية الفكر حدوداً تتنافى مع ماهية الفكر بالذات انها كما قال الرسول: أنتم أعلم بشؤون دنياكم، أو ما قاله المسيح: اترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله!

كيف نفكر بالعلمانية، وكيف مارستها الدول الوطنية، وكيف أُبلست لاحقاً، وما علاقتها بالدين، الإيمان، والإلحاد، وكذلك دور الأنظمة بتفريغها من محتواها؟

العلمانية ليست في موقع مناقض أو مناهض للأديان، بل قد تكون الوسيلة الأنجع، لإنقاذ الأديان من الشوارع السياسية. إنها مجرد نهج نسق تفكير وطريقة لإدارة الدولة، وهي لأنها غير مؤدلجة، تتمتع بالمرونة الكافية لتتلاءم مع جميع الثقافات والشعوب والبلدان، التي تستطيع الاتفاق على علمانية تطبيقية، تتناسب وبيئتها الفكرية.

طبعاً تنطلق من التعريف الرصين التالي:

العلمانية ليست ديناً وليست رأياً وليست شعاراً إيديولوجياً، هي منهج تفكير ديمومي متطور وغير متأطر، ولا يمكن تحديده لكونه غير منجز، وغير نهائي، ومتطور دوماً.

وهو متلازم مع حركة القوى التاريخية التقدمية، التي تسانده، ينتكس بانتكاستها، ويمضي قدماً للأمام بنهوضها، وكلما استدعى الظرف القاهر ضرورة الخروج منه، طور المنهج أدواته، وابتكر الحلول.

ومنذ نشأت العلمانية كخيار إنساني وجودي عقلاني في مواجهة الخيار الغيبي المدمر، حتى اليوم، وهي طوع العقل العاقل ونتاجه وحاجته، للبقاء ضمن حيز العقلانية، شأنها في ذلك شأن خيارات الإنسان الحداثية والتقدمية الأخرى.

وكل دولة حديثة هي دولة علمانية بالضرورة، لأن الدولة شخصية اعتبارية، لا دين لها، الدين للفرد، وليس للدولة.

إن تنظيماتنا السياسية تناضل لإزاحة دكتاتورية المجتمع، حيال التفكير، وتنادي بدولة الحداثة العلمانية، والتجسيد الحقيقي لذلك يكون في الاعتراف بمسائل مهمة:

1- حيادية الدولة

2- المواطنة

3- المساواة

4- حقوق الإنسان

5- المنهج العلمي في التفكير، أي العقلانية

6- دور الدين في الحياة

كما نؤمن بقدرة الدين على لعب دور إيجابي ومشارك في تحقيق النهضة والتقدم بالمجتمع، وحب الإنسان لأخيه، وتعزيز قيم المواطنة والتآخي، وعلى أهمية تجديد الخطاب الديني وإصلاحه بما يعكس قيم العمل والتكافل والتسامح، وبما يؤدي إلى تحقيق العدل والمساواة، ويضع الأساس الصلب لمجتمع يحترم الإنسان الفرد، ويقدس حريته، التي لا تتجاوز حريات الآخرين، وعلى أساس القانون، الذي يفصل بين حدود حريات الأفراد.

الدين شخصي في العلمانية، في ممارسة الشعائر الدينية واختيار احواله الشخصية، أو في كون المرء لاأدرياً أو لا دينياً أو ملحداً، شخصي بالكامل بالمعنى الفلسفي، فالسؤال حول الدين الذي يتبعه الفرد، هو سؤال مفتوح للجميع، والإجابة التي يختارها الفرد ليست نهائية له ولا مُلزمة لبقية الأفراد.

ليست مهمة الدولة أن تتبنّى موقفاً فلسفياً. مهمة الدولة أن تكفل للأطراف المختلفة حق النقاش والاختلاف والبحث. لا يجوز أن تتبنّى الدولة رؤية دينية أو لا- دينية. والحياد، بمعنى تشجيع الأطراف المختلفة على التفكير والنقاش هو الموقف الليبرالي الفلسفي من الدين. أما ما نراه كعلمانيين سوريين وبكل المشرق العربي، سواء كنا مؤمنين أم لم نكن، فهذا جزء من عملية الحوار ذاتها، حيث ننظر إلى المشكلة الطائفية من زاوية سياسية، ونعالجها من زاوية سياسية.

المشكلة تكمن في تحويل الطوائف إلى كيانات سياسية. والحل هو في الاعتراف بالطوائف وبحرية العبادة والنشاط المدني والاجتماعي والثقافي والخيري، مع التأكيد على حيادية الدولة فيما يتعلّق بالإيمان الديني.

عندما سيستوعب السوريون معنى الديمقراطية الحقيقي، وأن لا ديمقراطية دون علمانية، سيتوصلون إلى دستور جديد وجيد، هو ذاته دستور 2012 مع تعديله لإزالة الشوائب المانعة لعلمنته. وفي الواقع تتجاهل تيارات الإسلام السياسي المختلفة، حقيقة إنها تحمل علة فشلها وقصورها بداخلها، فهي عاجزة عن تأسيس وتقديم مشروعها الخاص لحقوق الإنسان ومساواة الرجل بالمرأة وللحرية بالمفهوم الحداثي، وحتى مفهوم الديمقراطية لا ترى هذه التيارات فيه سوى بعده الأداتي، أي بوصفه جسراً لاستلام السلطة، وليس غاية في حد ذاته، لحرية البشر وسعادتهم.

تيارات الإسلام السياسي تتهم الكل بالتأمر عليها، لكن ليس لديها الجرأة الكافية لمراجعة تهويماتها وأوهامها الإيديولوجية والماورائية، طبعاً أتكلم وأشمل فيما أقصد (دواعش) الداخل و(فاسديه) أيضاً، فللعلمانية بعدها الاجتماعي من عدالة ومساواة.

العلمانية التي نريد هي فصل الدين عن الدولة وليس فصل الإنسان عن معتقداته، وذلك كما في دول عديدة كالهند وألمانيا وهي علمانية حيادية تجاه الأديان والطوائف والإيديولوجيات والأفكار والأحزاب والإثنيات والأعراق وتشتمل بمظلتها ورعايتها كل التعابير الفكرية-السياسية والأحزاب السياسية قانوناً مادامت تقبل الآخر، وتؤمن بالتعددية الفكرية والسياسية، وتتقيد بالقانون الذي يمنع استعمال القوة خارج إطار سلطة الدولة وجيشها المحتكر للسلاح واستعماله عبر القانون والدستور والقوات المسلحة الشرعية.

‏إذاً، العلمانية خالية من الأوهام، فهي لا تعني فقط فصل الدين عن الدولة بل العقلانية، و‏لقيام الدولة العلمانية لا بدّ من نزع كل تفكير غير علمي وماورائي في الحكم. فالتعريف المطلق ‏للعلمانية هو جعل الدولة زمنية Secular تعيش الزمن الحاضر (الواقع) أي علمية وعالمانية أي من العالم في زمانه ودهره، وفي مواجهة كل ما يعطل تطور هذه الدولة وبناءها العام من تفكير غيبي.

في الختام، أيّ علمانية نحتاج إليها في سورية بهذه الحمى اللاعقلانية ضد التطوير والتحديث التي تجتاح العالم العربي، بل ويتصدى لذلك ليس فقط قوى الإسلام السياسي وإنما مراكز راسخة في القوى العميقة بالمجتمع.

إننا كمعارضة داخل، ندعو إلى علمانية راشدة ورشيدة تتمحور حول العلمانيين الذين يناضلون ويريدون فصل الدين عن السياسة ولا يطمحون إلى فصله عن المجتمع وعن حياة الإنسان، فالعلمانية كما أوضحنا في أصلها وجوهرها حيادية تجاه الاديان وتحترم كل الأديان والمذاهب وحيادية تجاه الأعراق والإيديولوجيات، وتقدس حرية المعتقد وحرية الدعوة له، كما تقدس في الوقت ذاته حرية الضمير والمعتقد وحقوق الإنسان وتؤمن بالمساواة والعدالة الاجتماعية.

المنسق العام لمؤتمر القوى الوطنية الديمقراطية والعلمانية

العدد 1104 - 24/4/2024