لا بدّ من خلوة للنفس والفكر

إيمان أحمد ونوس:

لا ريب في أن نمط الحياة العصرية القائم في غالبيته على التقنيات الإلكترونية وسواها من أنماط لم تكن سائدة قبل ثورة الاتصالات التي عملت على اختزال الكثير من الوقت والجهد، بحيث كثّفت كل هذا، بما جعل غالبية البشر يعيشون رفاهية معقولة مترافقة مع أوقات فراغ كبيرة لم تُستهلك بالشكل الأمثل في مجتمعاتنا التي لم تكن أساساً مُهيّأة لتلك التطورات التي عزّزت قلق البعض وخوفه من المجهول.

ومع اشتعال الحروب العبثية، وما أحدثته من دمار وخراب وموت ونزوح وقلق ورعب واكتئاب لم ينجُ من ويلاتها أحد سوى من اغتنى على حساب موت وجوع وقهر الآخرين، وهذا بحدِّ ذاته يُشكّل مصدر قهر وألم للغالبية التي خسرت كل شيء حتى كرامتها التي سطا عليها وداسها قلّة باتوا اليوم متنفّذين ومسيطرين. يُضاف إلى كل هذا حلول وباء كورونا الصاعق على حياة الناس أجمعين وفي كل بقاع الأرض، بما أفرزه من بطالة رفع من منسوبها الانهيار الاقتصادي بسبب إغلاق المصانع والشركات والأسواق الذي فرضه انتشار الوباء وما تبعه من ارتفاع بالأسعار إلى مستويات خيالية، ما ضاعف من الضغوط النفسية والمادية التي أرخت بثقلها على الجميع بلا استثناء، وهذا ما دفع بالغالبية من البشر إلى حالة من الضياع والتيه الذي قادهم إلى مسالك التلاشي أو اللامبالاة تجاه مختلف الأشياء والأمور الخاصة والعامة، وجعلهم بالتالي يعيشون حالة من الفراغ الروحي والمعنوي، بالتزامن مع فراغ في الوقت اتجه البعض لملئه إمّا بالزيارات والتسوّق وما شابه، أو للعزلة التي ساهم بتعزيزها تعليمات الحظر المفروض بخصوص التصدي للوباء ما عمل على رفع منسوب الاكتئاب والقلق، بحكم عدم امتلاك الثقافة الكافية لمواجهة كل هذه المُستجدات حتى وصل البعض إلى التفكير إمّا بالانتحار أو الهجرة مهما كانت عواقبها لاسيما لدى فئات الشباب التي لم تعد ترى في الحاضر والمستقبل سوى نفق مسدود ومظلم يُحاصرها ويخنق أحلامها وتطلعاتها الطبيعية.

لا شكّ أن في كلا الاتجاهين اللذين سادا في ملء أوقات الفراغ، ضياعاً واستلاباً لا يؤدي بحال من الأحوال إلى تجاوز هذا الواقع بكل مرارته وفظاعته، بل يزيد من حدّة وسرعة الانهيار الإنساني والاجتماعي الذي يغتال مختلف مقوّمات الحياة التي من المُفترض أن يسعى الجميع لإيجاد الحلول الناجعة والمُجدية لبعثها من جديد، والخروج ما أمكن من شرانق القهر والخوف والقلق، وهذا لا يتطلّب سوى الإرادة الواعية وبذل بعض الجهد ولو كان متعِباً في الاستثمار الأفضل لهذا الوقت.

صحيح أن بعض الخروج من البيت والترفيه والتسوّق يُخفّف ويُحرر من الضغوط المتراكمة، ويدعم العلاقات الاجتماعية المطلوبة أو المفروضة، لكن لا بدّ من بعض الوقت لخلوة ذاتية نُمعن خلالها التفكير بحالنا وواقعنا المأزوم حقيقة، انطلاقاً من قاعدة أن لكل أمر مهما عظُم نهاية، ولكل مشاكل مهما تفاقمت حلولاً تساعدنا على الانتقال من حال إلى حال أفضل، خلوة نمتّع خلالها النفس ببعض ما افتقدته ممّا تحب من موسيقا وربما مشاهدة أفلام أو حتى أغاني ورقص يُحررنا من قلقنا وخوفنا، وربما خلوة أخرى تُمتّع الفكر والعقل بالاطلاع على آخر مستجدات العلوم والفكر الإنساني الذي طال عالمنا المعاصر بالنقد والتقييم واستشراف المستقبل البشري، خلوة تجعلنا نرى حقيقة الواقع بكل ما فيه من قهر وألم، وحقيقة ما أدى بنا إلى ما نحن عليه اليوم من حروب قامت بدافع الاستبداد بقدر ما قامت بدافع الحقد والانتقام في ظاهرها، لكن لو تمعّنّا جيداً سنُدرك أن هذه الحروب ما قامت سوى لتلبية مصالح واحتياجات رأس المال لأماكن ومنابع نفوذ تغذيه باستمرار.

فهلّا حاولنا النظر إلى أنفسنا من منطلق إنساني يدفعنا لاستثمار وقتنا وعمرنا بشكل يتناسب مع إنسانيتنا ووجودنا الذي يجب أن يكون فاعلاً كي لا يبقى مفعولاً به!؟  

العدد 1102 - 03/4/2024