انقلاب

عيسى وليم وطفة:

يُجمع الباحثون والمؤرخون على أن الدعاية الموجهة من خلال الإعلام الذي دعمته الدول الغربية الرأسمالية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عرين الرأسمالية المتوحشة، كان لها دور كبير في إسقاط نظام الحكم في الاتحاد السوفييتي. فقد نشرت الولايات المتحدة في ستينيات القرن الماضي أعداداً كبيرة من  محطات تقوية الإرسال والبث الإذاعي على مقربةٍ من حدود  الدولة السوفيتية، وكانت هذه المحطات على مدار الساعة تعمل  على نشر الأخبار الزائفة والمضلّلة إلى الداخل السوفييتي، بهدف التأثير على الوعي الجمعي لشعوب الاتحاد السوفييتي ونشر الفوضى الاجتماعية، باستخدام طابور من المنشقين عن الدولة السوفييتية، وكذلك من خلال التباهي بالحرية والديموقراطية التي يتمتع بها المواطن الغربي، وإظهار  النمط الاستهلاكي الباذخ والصاخب بموسيقا الروك إند رول، الذي يوحي بأن المواطن الغربي يعيش حياة الرفاهية والنعيم، مقارنة بالمواطن السوفييتي، وعلى مسمع العالم في كل المحافل الدولية، وحتى في الخطابات الداخلية الموجهة للناخب الأمريكي، لم يكن يخلو أي خطاب أو مقابلة مع الكوميديان رئيس الولايات المتحدة رونالد ريغان  من التندّر وإلقاء النكات المستملحة عن النظام السوفياتي والقادة السوفييت وعن حياة المواطن السوفييتي عموماً.

لقد كانت حرية التعبير وحرية التنقل وحرية العمل من أهم امتيازات مواطن العالم الغربي، تلك التي افتقدها المواطن السوفياتي الذي كان يعيش حياة التقشّف، ويعاني أكثر ما يعاني من سياسة تكميم الأفواه المفروضة علية لدواعٍ أمنية ووطنية!

اليوم، وبعد أن تحولت الصراعات من خارجية بين قطبين متضادين متناحرين، وأصبح النظام الرأسمالي هو النظام الوحيد الذي يقود العالم اقتصادياً وسياسياً والمتحكم بمصائر الناس والمجتمعات البشرية، انتقل هذا الصراع إلى الداخل الرأسمالي، وتدور رحى الحرب الأهلية الداخلية بين مختلف القطاعات الاقتصادية، فبعد أن كانت تعمل كل قطاعات النظام الرأسمالي بتناغم مدروس وتبادل أدوار مبرمج ضد النظام الاشتراكي، انقسمت إلى قطاعات اقتصادية طفيلية تتمثل بأسواق المال والبورصة التي  تنمو وتزدهر على حساب القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية والتكنولوجية التي تشغّل اليد العاملة وتوّظف رأس المال بالإنتاج المباشر، فتؤمن احتياجات المجتمع والاقتصاد من جهة، وفي الوقت  ذاته تحقق زيادة ثرواتها المادية من جهة أخرى.

هذه الحرب الأهلية الداخلية بدأت تتجلى منذ الأزمة الاقتصادية عام ٢٠٠٨. واستمرت بنواحٍ متعددة، واليوم تتبلور بالنقاط التالية:

١- انهيار سوق الأوراق المالية بسبب الأزمة العميقة بين قطاع اقتصادي طفيلي ممثلاً بشركات المضاربة والتحويلات المالية وشركات التأمين وغيرها،  وقطاع صناعي زراعي  إنتاجي وصل إلى طريق مسدود وأصبح عاجزاً عن التطور، بسبب سطو القطاع الطفيلي غير المنتج على حصّة القطاع الصناعي المنتج.

٢- انهيار المنظومة الاجتماعية وانعدام الثقة ما بين الدولة المأزومة والمواطن المخدوع  الذي اعتاد تاريخياً الاعتماد على حكومات متعاقبة لتأمين متطلبات حياته ورفاهيته، وخروج النزعة العنصرية من تحت الرماد لتأخذ أبعاداً خطيرة على مستقبل التعايش الاجتماعي، ومثال ذلك  هو الاحتجاجات المستمرة بعد مقتل رجل أسود على يد الشرطة في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا الأمريكية، وتشير بعض الأخبار من مراكز شرطة الولاية  إلى مقتل أكثر من ١٠٠٠  أمريكي أسود من أصول إفريقية على يد الشرطة الأمريكية خلال العام الماضي وبدوافع عنصرية وحجج أمنية. ومع ذلك لا يمكن إغفال أن هذه الاحتجاجات ربما تديرها غرف عمل سرّية، وقد يكون مشغّلوها من الحزب الديموقراطي لإضعاف حظوظ الجمهوريين وترامب للفوز بولاية ثانية. وأيّاً كانت هذه الاحتجاجات الدموية، عفوية أم منظّمة، فهي نتيجة طبيعية لنظام رأسمالي مأزوم، فاسد ومتوحش.

٣- فرض قانون طوارئ جديد بحلّةٍ جديدة، وحظر التجوال ليلاً وأحياناً نهاراً، وإغلاق أماكن التجّمع العامة، وممارسة سياسة الترغيب والترهيب من خلال فرض الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي للحد من التواصل بين أطياف المجتمع، باستخدام  خديعة الحد من انتشار فيروس كوفيد ١٩.

٤ – وقبل أيام وقع الرئيس الأمريكي ترامب على قانون الحدّ من حرية وسائل التواصل الاجتماعي ومراقبة المحتوى التراسلي بين الأفراد، وهذا انتهاك فاضح لحرية التعبير وحرية الفرد بتوجيه النقد لسياسة الحكومة وعملها، وهذا ايضاً بحجة الدفاع عن حرية التعبير! أي إن حرية التعبير وفق قانون ترامب هي (من ليس معنا فهو ضدنا)! وإذاً: من ليس مع ترامب لا حقّ له في ممارسة حرية التعبير، وهذا القانون الترامبي القراقوشي بحق الناخب الأمريكي قبل غيره من البشر هو سابقةٌ خطيرة لا ينبغي تمريرها تحت أي ظرف ومهما كانت التكلفة. فبعد أن استخدمت الأنظمة الرأسمالية مبدأ الديموقراطية لإسقاط خصومها من الأنظمة الاشتراكية، تحوّل مبدأ الديموقراطية نفسه إلى حبل مشنقة للنظام الرأسمالي المأزوم.

بمعنى آخر، إن النظام الرأسمالي الذي نما وترعرع في ظل حرية التعبير وحرية الفرد والتداول الديموقراطي للسلطة أصبح اليوم في مواجهة عدائية مع الحرية والديموقراطية نفسها. وهذا يُعيدنا إلى مبدأ ديالكتيكي أشارت إليه الماركسية بأن (كلّ نظام سياسي اقتصادي اجتماعي مع نشأته يحمل في داخله بذور فنائه).

٥- من أهم ميزات النظام الرأسمالي، حسب الدارسين والباحثين، قابلية هذا النظام للتأقلم والتحوّل السريع لمواكبة التغيرات الطارئة. هذه الديناميكية كانت فعّالة حين كان الصراع مع عدو خارجي. أما إذا كان الصراع داخلياً_ داخلياً، فإن إمكانية المناورة تصبح محدودة وفرص التأقلم السريع شبة معدومة، ومن أجل البقاء لا بد من اختراع عدو خارجي يُعيد ترتيب المصالح وتوافقها بين أطراف الصراع الداخلي، ويدفعهم للاتحاد في وجه الخطر الخارجي المفترض. وهذه الحالة أصبحت اليوم غير متوفرة لسببين، الأول: أن العدو الخارجي المفترض حسب الإعلام الأمريكي هو الصين. والصين، على ما أعتقد، لن تعطِي هذه الفرصة للأمريكي بالانجرار إلى حرب مباشرة، لأن الحرب هي حبل نجاة للنظام الأمريكي المتوحش. والثاني: انكشاف عورات النظام الرأسمالي واستخدام حياة النعيم بالديموقراطية وحرية التعبير لم تعد تنطلي على الناخب الأمريكي الذي يعاني من العنصرية الاجتماعية والتهميش الاقتصادي.

إن ترميم صورة النظام الرأسمالي هذه المرّة ليست مهمة يسيرة كما كانت قبلاً، وإن ما تشهده ساحات الصراع الداخلي في المجتمعات والحكومات الرأسمالية لا يُنبئ بأن الحلول قريبة، ولا يبشّر بأن المستقبل على المدى القريب سيكون آمناً. وكالعادة سيدفع فقراء الأرض ثمناً باهظاً. وعليه فلا بُدّ من ابتكار حلول إنسانية أخلاقية تضمن حياة كريمة للبشر على اختلاف أجناسهم وعروقهم وألوانهم، ذلك أن المشكلات غير النمطية تحتاج إلى ابتكار حلول غير نمطية.

٣٠ أيار ٢٠٢٠

العدد 1104 - 24/4/2024