في الهويّة والماهيّة.. في اللغة…

عباس حيروقة:

إن المتأملَ لهذا الإنسان العظيم، هذا المخلوق الربّاني وما يكتنزه من حيوية وطاقات دفعته بجدارة، لأن يكونَ تماماً كما شاء له باريه، خليفته على هذه الأرض الطافحة بالنور وبالظلمة.. بالخير وبالشّر بالحبّ والجمال والسلام والإيمان كما هي تماماً طافحة بالكره والحقد والقبح والكفر وآتون الحروب.. الله والأرض والإنسان وهذا السرمد الأزلي الأبدي.

إن المتأملَ لهذا الإنسان وما خلّفه من حضارات هنا وهناك وقدرته العجيبة على الكلام، على الكتابة، على الرسم والرقص وممارسة كلّ أنواع الفن والإبداع والخلق لا تدعونا كثيراً للدّهشة بل للإيمان بأنه قام ويقوم بالدور المنوط له وبه من إعمار هذه الأرض، وما من دليل أو مثال حاضر قد نورده هنا عن حيويته وذهنيته المتقدة أوضح من اللغة هذا الفيض الربّاني المهيب.القدرة على الكلام وما سبقتها من مخاضات عسيرة حيناً ويسيرةً أحياناً أنتجت إشارات وعبارات ورمزاً ومرموزاً وتلميحاً وتصريحاً إلى أن آلت ما آلت إليه من نضوج، فكان الحرف وكانت الكلمة ببهاء حروفها ترسم على جدران الكهوف وتنقش على رقم طينية ومن ثم على جلود الحيوانات فورق البردة إلى أن آلت ما آلت إليه أو عليه من رسم على شاشة الحاسب، فنجد كلمة من حرفين وحسب (حب) مثلاً قابلة للتداول والعبور والانتقال في جميع أصقاع المعمورة حاملة وناشرة المعنى ذاته في وجيب قلوب العباد قاطبة.

كان الرسم وكان النقش وكان الحرف وكانت الكلمة، وكانت اللغة ببهاء حروفها وجمال تناسقها الأخّاذ ورموزها وإشاراتها، وكانت الأداة والوسيلة المعرفية الأساس الأهم لهذا الإنسان العظيم لكونها الناقل والحامل الموضوعي لفكره وثقافته وهويتة.

فكانت اللغة وكانت الثقافة، اللغة وطرائق التعبير المرافقة لها، وهذا الكم الهائل من المفردات من الأحرف وما تنشره من إيقاعات صوتية موسيقية (التّنغيم) من مدٍّ وتفخيمٍ وترقيقٍ، من إدغام وإطلاق، هذا ما عكس ويعكس وعياً مجتمعياً ونضوجاً بلوره الحراك الإنساني الخلاّق.

إنَّ الحديثَ عنِ اللغةِ أو الكتابة عنها ماتعٌ جداً وشيّقٌ من حيثُ هي كائنٌ حيٌّ حيويٌّ له ما له من مراحل وأطوار وأدوار مرَّ ويمرُّ بها كغيره من الكائنات، وهو خاضع لناموس التطور والتنامي والارتقاء كما هو خاضع أيضا لناموس الموات والاندثار والفناء.

فاللغة هي ذاكَ الكائن الحيّ البهيّ الوضّاء القادر على التجديد والنمو بمقتضى الحال، والمولّد والمتولّد من حيوية أبناء الزمان ومفردات المكان.

اللغةُ ذاكّ الوجود الكونيّ المهيب، الوجود الحقيقي الواقعي المتجسّد مادياً ومعنوياً إذ يحضرنا دائما قول سقراط لجليسه ذاتَ يومٍ: تكلّم كي أراك، ليتأكد لنا أنّ اللغة تجسيد لوجود الماهية، ماهية الشخص، ومن ثم تحول بفعلها الاجتماعي الحضاري لماهية ثقافة ما في أرض ما لشعب ما.

نعود ونقول إن اللغة ما هي إلا تلك الإشارات والرموز التي تدرب الإنسان على توثيقها وترسيخها، وهي تلك الوسيلة الحضارية الأرقى للتفاهم والتواصل مع الآخر بين أفراد وجماعات المجتمع، وهي الأساس في أيّ حراك أو نشاط مجتمعي بشري، سواء كان فكرياً أو ثقافياً أو معرفياً، وهي أي اللغة مرتبطة ارتباطاً بدهياً بالفكر، بالتفكير وهي الصورة التي يعبّر بها أو من خلالها عن أفكاره ورؤاه.

فاللغة حامل الثقافة ومرآتها لا بل هي كما قلنا سابقاً هوية فرد وجماعة ووطن، تميّز هذا الشعب عن ذاك لا بل هي وجود بالمطلق.

العدد 1104 - 24/4/2024