قيثارة الإنسان والمنفى

غياث رمزي الجرف:

(.. في (قرننا) المسكون بالخراب المادي والروحي.. أصبح الوطن هو المنفى، والمنفى هو الوطن، بل قد حلّ أحدهما في روح الآخر.. كلنا رهائن، سواء كنا في المنفى الصغير أو الكبير، يترصدنا الموت والتعاسة…).

الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي هو واحد من الذين عملوا على تأسيس حركة الشعر العربي الجديد (الشعر الحرّ/ شعر التفعيلة) في العراق، وفي مقدمة هؤلاء الشاعرة نازك الملائكة التي لعبت دوراً تأسيسياً وأساسياً، على الصعيدين الإبداعي والنقدي التنظيري، في هذه الحركة.

البياتي، الذي رحل رحلته الأبدية (3/8/1999 بدمشق) قبل أن يصل إلى عالمه الإنساني المشتهى الذي طالما تشوّقنا إليه وحلمنا به، وعى حركة التاريخ، والتزم قضايا الإنسان الكبرى، وأضحى وجدانه الفردي وجداناً جماعياً، فهاجر من مناخه الزماني والمكاني خارج ذاته إلى مناخ إنساني رحب داخل ذاته، ومن ثم تحوّل إحساسه الفردي بالظلم والاضطهاد والفاجعة والجوع والموت، إلى إحساس بظلم الشعب واضطهاده وفاجعته وجوعه وموته.

إن الوجدان الفردي (الأنا، الذات) لا يمكن له أن يتفتح حين تكون الهوة سحيقة بين الواقع والصبوات إلا من خلال وعي المأساة الجماعية. وفي البلدان المتخلفة أو في ما اصطلح على تسميته ببلدان العالم الثالث، كما يقول المفكر والمثقف العربي الكبير جورج طرابيشي، يكاد ضمير الأنا أن يكون مستحيلاً، وفي أحسن الأحوال لا يطاق. ‏

(الأنوية) في تلك البلدان هي بالضرورة أنانية، وفي الوقت الذي لا يصير فيه الإنسان إنساناً إلا إذا تفتح وجدانه الفردي، فإن شرط تفتّح هذا الوجدان في بلدان العالم الثالث ليس التفرد والتمايز عن المجموع، بقدر ما أنه وعي مأساة هذا المجموع المحال عليه أن يتفرد ويتميز.

هكذا خرجت الرؤيا الشاعرية والفنية والإنسانية لدى عبد الوهاب البياتي بشكل حقيقي من المحدود (الذات)، إلى اللامحدود (الآخر)، (الرؤيا كلمة تنطوي على إيحاءات عميقة وأبعاد غير محددة ودلالات تأبى التقنين… وهذا كله لا يتوافر في كلمة رؤية). ومن أشعاره الأولى نلحظ أن الرؤيا (البياتية)، بأبعادها الفكرية والحضارية والأدبية والثقافية عموماً، رفضت المحدود وغردت في فضاء اللامحدود الحر الرحب والمفتوح. ولكن عندما لا يبقى نهر الحرية الحق، بجميع معطياته، لمجراه أميناً، تصير (الرؤيا) سوداوية ومأساوية، بل كارثية بكل المقاييس، ويقف الموت بجميع دلالاته ضاحكاً مختالاً في الجهة المقابلة والمضادة للحياة التي تئنّ من وطأة حزنها وبؤسها وألمنا وبؤسنا. ‏

متُّ من الحياةِ ‏

لكنني مازلتُ طفلاً جائعاً يبكي ‏

كان هو الموت ‏

رأيته في عرصات البلى ‏

يعيد في هباتها سبكي ‏

دمي على قناعه وهو لا ‏

يضحكُ في السيرك ولا يبكي ‏

قلتُ لأمي الأرض لا تجزعي ‏

فهو الذي حدثني عنكِ ‏

أورثني الفقر وها إنني ‏

أرزحُ تحتَ تاجه الشوكي ‏

إنْ حكت الحياة عن بؤسها ‏

فما الذي عن بؤسنا نحكي ‏

نذبلُ في ليلِ المنافي ولا ‏

نشبعُ في عناقنا منكِ! ‏

لقد احتل المنفى_ سواء أكان قسرياً أم كان اختيارياً_ وما ينطوي عليه من إشكالات ومعاناة ومناخات متقلبة ومفردات متغيرة، وأجواء غير مستقرة، وبما يحمل في طياته من وجع وشوق وحنين متعدد مفتوح ودامٍ، في بعض تجلياته، احتل مساحات واسعة من إبداعات (البياتي) الشعرية:

نحنُ من منفى إلى منفى

ومن بابٍ لباب

نذوي كما تذوي

الزنابق في التراب

فقراء، يا وطني، نموت

وقطارنا أبداً يفوت

والمنفى وهب البياتي ذهب القصائد ورمادها، ووهبه الفقدان والتعود عليه والشعور بأن العالم قرية كبيرة، كما منحه شعوراً ضد القبلية والتعصب والطائفية وضد الجلادين والقتلة، في كل زمان ومكان، على حدّ تعبيره في أحد حواراته.

يقول عبد الوهاب البياتي متوجهاً بخطابه الشعري إلى ولده (عليّ): ‏

مدن بلا فجر تنام… ‏

ناديتُ باسمكَ في شوارعها ‏

فجاوبني الظلام ‏

وسألتُ عنكَ الريح ‏

وهي تئنّ في قلب السكون ‏

ورأيتُ وجهكَ ‏

في المرايا والعيون ‏

إن التجربة الشعرية لدى عبد الوهاب البياتي تجربة رائدة، وهي من أغنى التجارب الإبداعية/ الحداثية في الشعر العربي المعاصر. فالبياتي شاعر أصيل من أولئك الشعراء الحقيقيين الذين كان تجديدهم تلبية لدواعي المحتوى الجديد، وليس سعياً وراء بدعة أو حذلقة، على حدّ تعبير الشاعر الذي لا نملك إلا أن نرفع له القبعة: ناظم حكمت.

إننا، تأسيساً على ذلك، ندعو دعوة حارة أهل النقد والتنظير لإعادة النظر في التجربة الشعرية لدى البياتي، والكتابة عنها وتناولها بشكل يليق بها، أي دراستها دراسة نقدية حقيقة بعيدة عن الإنشاء المدرسي، وبعيدة، كذلك، عن القدح والذم، أو الإطراء المجانيين، فنحن لم نقع، وفي حدود علمنا، على كتاب نقديّ هام تناول التجربة الشعرية (البياتية) بعد كتاب الدكتور إحسان عباس الذي صدر منذ زمن بعيد تحت عنوان: عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث.

العدد 1104 - 24/4/2024