منظمة التجارة العالمية ليست محايدة

بشار المنيّر:

يتصاعد الخلاف، وتتحول الإجراءات الأمريكية في مواجهة الواردات الصينية إلى حرب حقيقية، قد تتصاعد لتأخذ أشكالاً جديدة، ربما تكون ذات طابع سياسي، ثم عسكري، خاصة بعد أن حاولت الولايات المتحدة تأجيج الخلافات حول بحر الصين، وزيادة وجودها العسكري في الدول الحليفة المطلة عليه.

إنه خلاف تجاري… هكذا يصرح الأمريكيون والصينيون، فلماذا لا تُحَلّ المسألة ضمن المنظمة العالمية التي أنشأتها الولايات المتحدة لتكون حارسة للتبادل العالمي والتجارة الحرة؟! الجواب ببساطة شديدة: لأن منظمة التجارة العالمية ليست محايدة في أي خلاف تكون الولايات المتحدة أحد أطرافه، فهي، إضافة إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تمثل أدوات القطب الأمريكي للسيطرة على الاقتصاد العالمي.

أنشئت منظمة التجارة العالمية بعد جولات متعددة للدول الأعضاء في (الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة) إذ وقِّعت هذه الاتفاقية، التي تعرف اختصاراً  بـ (الجات) عام 1947 بهدف تجاوز آثار الحرب العالمية الثانية ومخلفاتها، وإيجاد نظام للتجارة الدولية، وتشجيع التبادل التجاري بين الدول المتعددة، وكانت سورية في عداد من وقعوا على هذه الاتفاقية حينذاك، ثم أعلنت انسحابها عام 1956 بعد قبول إسرائيل في عضويتها، وكانت الجولة الثامنة لاتفاقية (الجات) في الأورغواي قد أعلنت ولادة منظمة التجارة العالمية بموافقة   123 دولة في عام 1995، ويمكن تلخيص المبادئ الأساسية لمنظمة التجارة العالمية بما يلي:

1 –  التزام الدول بأن التعرفة الجمركية هي الوسيلة الأساسية للحماية، وأن استخدام هذه التعرفة سيتم بطريقة غير تمييزية، والتعهد بالتخلي عن الحماية مستقبلاً وتحرير التجارة.

2-  التعهد بعدم التمييز بين الدول، أو بين المنتج الوطني والأجنبي.

3 –  تجنّب سياسة الإغراق، وعدم اللجوء إلى دعم الصادرات، وقبول مبدأ التقييد الكمي في أحوال استثنائية لحماية ميزان المدفوعات، وتقديم معاملة تفضيلية للدول النامية (1).

يبلغ عدد أعضاء منظمة التجارة العالمية (149) دولة من بينها (11) دولة عربية، ويستغرق الانضمام للمنظمة فترة طويلة يجري خلالها تهيئة الأوضاع الاقتصادية للبلد الراغب بالانضمام مع بنود الاتفاقيات الأساسية للمنظمة، وقد تطلب ذلك من السعودية وعمان (12) سنة، وتقدمت سورية بطلب جديد لعضوية المنظمة في عام 2001 لكنه لم يُدرج للمناقشة نتيجة للضغط الذي مارسته الولايات المتحدة.

ورغم الوعود التي قطعتها الولايات والمتحدة وشركاؤها الأوربيون بضمان تسهيل اندماج الدول الفتية في الاقتصاد  العالمي، وتوجيه المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي والمصرف الدولي ومنظمة التجارة العالمية إلى إعداد البرامج  والنصائح الاقتصادية الخاصة بإعادة الهيكلة في تلك  الدول، إلاّ أن حقيقة هذه الوعود تكشفت من خلال إطلاق يد الشركات المتعددة الجنسيات لاستغلال ما تبقى من ثروات الدول النامية، ومحاولة القضاء على أي  أمل لهذه الدول في إجراء تحولات اقتصادية واجتماعية  تهدف إلى تحسين  الأوضاع المعيشية لملايين الفقراء، وفي الوقت الذي يتضاءل فيه نفوذ الدول النامية في منظمة التجارة العالمية، تزداد سطوة  الشركات  الكبرى، فهي التي تحدد المشكلة، وهي التي تقترح الحلول، فممثلو  الشركات يدخلون  ضمن الوفود الرسمية لدول الشمال.

تفصل منظمة التجارة العالمية في النزاعات بشكل سري، وقد أصدرت أحكاماً ضد دول نامية وأخرى متقدمة، لكن الشعور العام لدى مندوبي الدول المشاركة أن هذه المنظمة لا تكيل دائماً بمكيال واحد.

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، نشبت حرب الموز الكبرى عندما قرر الاتحاد الأوربي أن يمنح كوتا (حصة) تقل عن 10%  لاستيراد الموز من شركة (شيكيتا ) الأمريكية المتعددة الجنسية، وذلك لحماية منتجي الموز الصغار في المستعمرات الفرنسية والبريطانية في إفريقيا والبحر الكاريبي، وهي بلاد تعتمد في بقائها على تصدير الموز، لقد أقنعت شركة (شيكيتا) ممثلي التجارة الأمريكية أن هذا الإجراء يضر بمصالح الولايات المتحدة، إذ يؤدي إلى خسارة ثلاث شركات كبرى للفواكه ( شيكيتا – دول – ديلمونت) مبلغاً يعادل 520  مليون دولار سنوياً، وهكذا تقدمت الحكومة الأمريكية باحتجاج لمنظمة التجارة العالمية بالنيابة عن شركاتها، واتهمت الاتحاد الأوربي باتخاذ مسلك تحيّزي في استيراد الموز، وهددت بفرض ضريبة جديدة تعادل 100% على عدد من المنتجات الأوربية  من الخمور والقمصان الاسكتلندية والتجهيزات المنزلية الإيطالية، إذا لم تعدل  النسبة المخصصة لشركة الموز الأمريكية، وفي عام 1999 اتخذت المنظمة قراراً بتعديل الحصة المخصصة لشركة الموز الأمريكية، لكن الاتحاد الأوربي رفض تنفيذه، مما دفع الولايات المتحدة لفرض ضرائب انتقامية على وارداته من أوربا بلغت191 مليون دولار. (2)

لكن السؤال الذي يتبادر للذهن هنا: هل كان باستطاعة (كارل ليندنر) مالك شركة (شيكيتا) الاعتماد على حماس المسؤولين الأمريكيين في حرب الموز لولا المبالغ التي دفعها كتبرعات طيلة فترة المناوشات، والتي بلغت أربعة ملايين ومئتي ألف دولار للحزب الجمهوري، ومليون وأربعمئة ألف دولار للحزب الديمقراطي؟

في عام 1996 صوَّت الاتحاد الأوربي على منع تصنيع الهرمونات الاصطناعية في لحم البقر، إذ ثبُت أنها تتسبب بمرض السرطان والإقلال من خصوبة الذكور، لكن شركة الكيماويات الزراعية الأمريكية (مونسانتو) واتحاد أصحاب قطعان البقر الأمريكي_ وهم بالمناسبة من متبرعي الحزبين الرئيسيين في أمريكا_ مارسا الضغط على الإدارة الأمريكية لتقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية بحجة تقلص الاستيراد من أمريكا نتيجة لقرار الاتحاد الأوربي، وقد صدر قرار من لجنة تحكيم المنظمة لصالح الأمريكيين، وعندما رفض الأوربيون تنفيذ القرار خولت منظمة التجارة الولايات المتحدة وكندا فرض عقوبات تجارية انتقامية تجاوزت (125) مليون دولار، وبشكل مفاجئ خضعت صادرات أوربية مثل عصير الفواكه والخردل والأجبان لضرائب جمركية كبيرة. (3)

ورغم أن الدول النامية تشكل 80% من أعضاء منظمة التجارة العالمية، إلّا أن هذه الدول تُعامَل وكأنها من الدرجة الثانية، فقد استُبعِد معظم وزراء التجارة في هذه البلدان من المرحلة النهائية من مفاوضات الأورغواي عام 1993، وتوسلوا إلى الصحفيين الذين حضروا جانباً من هذا الاجتماع لكي يخبروهم عن آخر مجريات المفاوضات! إن ثلاثين دولة نامية من أعضاء المنظمة لا يستطيعون وضع ممثل لكل منهم في مقر المنظمة في جنيف لارتفاع تكاليف الإقامة!

basharmou@gmail.com

 

هوامش:

1-النظام الاقتصادي الدولي المعاصر، د. حازم الببلاوي.

2-راجع مجلة التجارة العالمية – شباط 1999.

3- صحيفة الغارديان 30 تشرين الأول 1999.

 

 

العدد 1104 - 24/4/2024