غربة المتنبي..

غياث رمزي الجرف: 

(إلى أ. م. إبراهيم رزوق.. على درب الإنسانية)

(كان المتنبي يرى أنّه عربيّ، وسار حياته كلّها سيرة ملائمة لهذا الرأي، ولعل هذا الرأي كان أبلغ المؤثرات في حياته العملية، وهو أبلغ المؤثرات في حياته الفنية على كل حال)_ طه حسين

_1_

 كثيرة هي الروايات التي حاولت تفسير سبب تلقيب أحمد بن الحسين الجعفي اليماني (303/ 354هـ) بالمتنبي، ومنها قوله مفسِّراً هذا اللقب: (أنا أوّل من تنبّأ شعراً). وأنا، كاتب هذه السطور، أدّعي أنّ هناك علاقة ما، على هذا النحو أو ذاك، بين الشعر العظيم والفيض الروحي والنّوراني والتصوّف العقلي أو الديني للشاعر، من جانب، وتجليات (النبوّة)، من جانب آخر، ألم يقل المتنبي:

ما مُقامي بأرضِ نَخْلَةَ إلا

كَمُقامِ المَسيحِ بَيْنَ اليَهودِ

أنا في أُمَّةٍ تَدَارَكَها اللهُ

غَريبٌ كصالحٍ في ثَمُودِ

وبعد أكثر من ألف عام ألم يقل الشاعر المهجري إيليّا أبو ماضي:

إنّما نحنُ معشرَ الشّعراءِ

يتجلّى سرُّ النبوّةِ فينا

 وأعود مرّة أُخرى إلى الأسباب التي وقفت خلف تلقيب أبي الطيب بالمتنبي، فهذه المسألة لها أهمية خاصة، لأنها ذات صلة وثيقة بكينونة شاعرنا العظيم.

 قلنا: كثيرة هي الروايات التي حاولت تفسير أسباب هذا اللقب، ودون الخوض في اختلاف الآراء بين النقاد والباحثين والدارسين في هذه المسألة، أدّعي مرة ثانية أنّ هذا (التنبؤ) وهذا اللقب يعودان إلى أسباب عديدة متداخلة ومترابطة فيما بينها، ولعل أبرزها أنّ أبا الطيب عاصر مرحلة خطيرة ومهمة من تاريخ أمته، تلاحقت فيها الأحداث والتغيرات والتحديات العاصفة، كحالتنا في وقتنا الراهن. فالأخطار الداهمة تحيط بالأمة من كل جانب، والحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية مضطربة، وأمور العباد والبلاد كلها صارت بيد الموالي/ الأعاجم (البويهيون في الشرق، والإخشيديون في مصر، والبربر في الشمال الإفريقي، والروم والفرس في بلاد الشام، ودعوات/ حركات سياسية سرية هنا وهناك. وأُبعِد العرب عن الشؤون الفكرية والثقافية ومراكز الدولة عموماً باستثناء الإمارة الحمدانية التي كتب أميرها، القائد العروبي المنفرد الأوحد في زمانه، سيف الدولة، أروع صفحات العزة والكرامة والشرف في الكفاح الدامي ضد الروم الغزاة في الثغور الشمالية من بلاد الشام. وإلى ذلك جميعاً فلنتأمل إجابة (كافور) حين سأله المتنبي إنجاز وعده في أن يُولِّيَه على إمارة: (أنتَ في حال الفقر، وسوء الحال، وعدم المعين سَمَتْ نفسُكَ إلى النبوّة، فإن أصبتَ ولايةً، وصارَ لك أتباع، فَمَنْ يُطيقُكَ؟).

 وأثّر ذلك كله تأثيراً قوياً بارزاً في حياة أبي الطيب وسيرته وشعره ورؤاه الفكرية والسياسية والإنسانية و(المستقبلية)، والتحم جميع ما تقدم أعلاه التحاماً عضوياً بشخصية أبي الطيب الجبارة العظيمة، ونفسه الطموح الأبية، وآماله الكبار وعزيمته التي لا تلين، وفروسيته النبيلة، وعروبيته الصارخة الغاضبة، وشاعريته العبقرية، وإشعاعات نبوغه المبكر.

_2_

 تِرْبُ الندى وربُّ القوافي، أبو الطيب المتنبي، كان شديد الأُلْفَة ليمانيته وعروبيته التي ما برحت ممزوجة بنفسه، موصولة بروحه من أول حياته إلى آخرها.

 أجل، صحيح أن المتنبي عريق في يمانيته، ولكنه طار في فضاء أوسع وحلّق في سماء لا حدّ لها، فتجرَّد من اليمانية واندمج في العروبية اندماجاً عضوياً. وسواء أكان أبو الطيب رقيق الحال أم كان واسع النعمة، وسواء أكان في بلاد العرب أم كان في بلاد العجم، فقد حافظ على هذا الدم العربي، وتعلّق بأهداب هذه (القومية العربية) فلم يرضَ بغيرها مذهباً ولم يبغِ عنها تحولاً. ها هو ذا يمرّ بشِعب بَوّان في أرض فارس، وهو أحد متنزهات الدنيا المشهور بحسنه وشجره الوارف الظلال وتدفّق أمواهه وكثرة أنواع طيره، فلم يستولِ على قلبه كل ذلك، ولم يأخذ هذا الجمال من نفسه شيئاً، لأنّ إحساسه العميق المؤلم بالاغتراب حال دون ذلك، فقال:

ولكنّ الفتى العربيّ فيها

غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ

 هذا الإحساس الموجع بالغربة، ألم يصوّره الأدب العربي المهجري، ولا سيما الشعر منذ منتصف القرن التاسع عشر أصدق تصوير؟ ألم يقل الشاعر القروي (رشيد سليم الخوري) من مهجره الجنوبي:

حولي أعاجمُ يرطنونَ ومَا

 للضّادِ عند لسانهمْ قدرُ

حولي أناسٌ لا أنيس بهمْ

ومدينةٌ لكنّها قفرُ

 وحين تمزقت الخلافة العباسية، وتشظّت الأمة، وهُدرت كرامتها، فصارت إلى دويلات وإمارات، وطغى الأعاجم على معظمها، تمرّد الشاعر الأعظم، أبو الطيب المتنبي، على هذا الواقع المرير المزري، ومعطياته المأساوية، ورفض رفضاً قاطعاً سيطرة الأعاجم وهيمنتهم على كل شيء (وهذا هو السبب الحقيقي والمباشر الذي أدى إلى مقتل/ اغتيال المتنبي بتدبير من البويهيين/ الأعاجم، من وجهة نظرنا على الأقل). ومن ثم حمل المتنبي صوت العروبية، وأطلق صيحة قومية جريحة، غاضبة ومحتجّة، ولا غرابة في ذلك، فأمّةٌ تُسلِم قيادها لأجنبي دخيل لا تفلح ولا تنجح، وكذلك الشعب الذي يقبل بأن تكون قيادته من الغرباء.

وإنَّما الناسُ بالمُلوكِ وما

 تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلُوكُهَا عَجَمُ

لا أَدَبٌ عِنْدَهُم ولا حَسَبٌ

 ولا عُهُودٌ لَهُمْ ولا ذِمَمُ

في كلِّ أرضٍ وطئتُها أممٌ

 تُرعى بعبدٍ كأنّها غنمُ

يستخشنُ الخزَّ حين يلبسهُ

 وكان يُبرى بظفره القلمُ

 لقد صحبت هذه العروبية المتنبي حتى آخر نفس من أنفاسه الزكية، لنتأمّل قوله في سيف الدولة وهو يرمي به مرمى عربياً واسع الآفاق:

رفعتْ بكَ العرَبُ العِمادَ وصيِّرَتْ

قِمَمَ الملوكِ مواقدَ النيرانِ

أنسابُ فخرهِم إليكَ وإنّما

 أنسابُ أصلهم إلى عدنانِ

 ما أعظمَ روحكَ، يا أبا الطيّب! وما أحوجنا إليها في هذا الزمان اليباب!

نعم، كنتَ، وستبقى إلى أنْ تنطفئ الحياة، ويأفل العالم، روحاً عظيمة خفّاقة في ملكوت الشعر، والعروبية، والإنسان الماجد الحرّ، والحلم المنشود، والوطن المشتهى.

giathaljrf30@gmail.com

العدد 1104 - 24/4/2024