طقوس الأول من أيار الباريسية

سيف الدين القنطار ـ باريس:

الأول من أيار في باريس عيد حقيقي ليس للعمال فحسب، بل يدخل في صميم حياة الشعب الفرنسي وطقوسه، وتقاليده، فمنـذ صباح الأربعاء  الأول من أيار كانت شوارع باريس الهادئة تعج بباعة باقات ورود الجميلة والمتنوعة، وقد اعتاد الناس أن يعبروا عن غبطتهم بهذا اليوم بتقديم الورد بعضهم لبعض. كما اعتادوا على المشاركة الواسعة في المظاهرة التي يتم التحضير لها عادة من النقابات وقوى اليسار الفرنسي المختلفة.

كان يوم الأربعاء يوماً جميلاً، الطقس دافئ، والشمس مشرقة، والسماء صافية، وقد بدأت الحشود تتوالى إلى (بولفار دو مونبرناس الفسيح) لتسير به أفواجاً تتلو أفواجا ثم تنتقل بعد ذلك إلى (بولفار دو بور رويال)، ومنه إلى (بولفار سان مارسيل ). فتدفعك الرغبة ليس في المشاركة فحسب، بل في معرفة كيف يحتفي الباريسيون بهذا العيد، وقد تجد نفسك في قلب المظاهرة بين آلاف المتظاهرين جذلاً وسعيدا، وعيناك تتنقل بين هذه الأمواج المتدفقة من القادمين من كل فج وصوب، يرفعون مختلف الرايات، ويرددون الأهازيج والأناشيد التي تثير الحماسة في الصميم، وتبعث مشاعر الإعجاب والاندهاش، فأنت هنا تمتلك حريتك الكاملة، تشترك لأنك مقتنع بالاشتراك دون أي اعتبار آخر، والمظاهرة رغم التنوع الهائل فيها، فأنها تعّبر عن قوى المعارضة الفرنسية دون إي التباس، ها هنا معسكران متميزان بكل وضوح، ودون خلط للأوراق: قوى الشعب العامل والمبدع والشغيل من جهة، ومن جهة أخرى قوى الحكومة الممثلة بآلاف مؤلفة من قوات الشرطة والأمن، وقد اصطفت على جانبي مسار التظاهر بعيون ترصد وتراقب وتسمع ما لا يروق لها سماعه.فالعديد من المتظاهرات والمتظاهرين كانوا يطلقون على مسمع منهم عبارات السخط والغضب. كانت حكومة ماكرون تعاني من توتر مستمر جراء نشاط أصحاب الستر الصفراء، الذي دخل أسبوعه الخامس والأربعين دون أن تجد لحراكهم حلاً، ودون أن تستجب حتى الآن لمطالبهم العادلة، وقد أعلنت الحكومة عشية العيد أنها موافقة على التظاهر، ولكنها لن تسمح بالتخريب، كان أصحاب الستر الصفراء قد أكدوا أنهم سيشاركون في مسيرة الأول من أيار، وقد توزعوا بين الجموع الغفيرة، وكتبوا الشعارات المتنوعة على ستراتهم أحدها يقول: (إنهم يسرقوننا، ولكننا لن نتوقف وسنسترد حقوقنا).ما يثير الإعجاب ويبعث على السرور الحضور الواسع لقوى التغيير والديمقراطية في بعض البلدان العربية، وصدق الشعارات والرايات التي رفعوها لتتعالى في سماء باريس، فتحت علم اليمن كان ثمة لافتة كتب عليها: أوقفوا الحرب لنعمل من أجل دولة مدنية، وتحت علم الجزائر كان الشباب يصدحون بشعارات تقول نحن نصنع تاريخا جديدا ونبني جزائر جديدة، مؤكدين أنهم رفاق درب للذين لا زالوا يملؤون شوارع المدن الجزائرية للقضاء على قوى الطبقة السياسية القديمة الفاسدة، وفي أكثر من مكان كنت ترى علم فلسطين يرفرف عالياً، ثمة لافتة تدعو إلى الحل السياسي وإحلال السلام والأمن في ربوع بلدنا سورية. ثلاث ساعات ونصف من السير يبعث على حب هذا النموذج من الاحتفال: شباب وشابات من كل الأجناس والألوان، يرقصون تحت راية كبيرة كتب عليها: فرنسا نسيج من الهجرات. إذ من المعروف أن ربع سكان فرنسا من أصول غير فرنسية أي من بين كل أربعة مواطنين ثمة واحد من أصل غير فرنسي. كنت تتلقى من حين لآخر بيانات تعرّف بمن يوزعونها وبأهم شعاراتهم، ففي بيان حزب جبهة اليسار قيل: ماكرون رئيس الأغنياء ورئيس اللامساواة، وفي بيان جمعية لاريبوست التي تعمل في ظل الحزب الشيوعي الفرنسي والاتحاد العام للشغل معا كتُب: انعتاق العمال لا بد أن يمر بقطيعة ثورية مع النظام الرأسمالي. ووزّع الحزب الشيوعي لعمال فرنسا بيانا جاء فيه: نحن شعوب وعمال البلدان الأوربية علينا أن نقول لا للاتحاد الأوربي، لا للهيمنة الأوربية. كنت ترى طيفا واسعا من المنظمات، والأحزاب، والجمعيات، وهيئات المجتمع المدني، وقطب هذه القوى: الاتحاد العام للشغل  (س.ج.ت)، خلفك كانت أعلام الحزب الشيوعي الفرنسي، وأمامك صورة مناضل كتب تحتها )البطل) وحولها شباب من أنصار الحزب الشيوعي التركي، كان ثمة فرقة نحاسية يعزف فيها صبايا وشباب ويرقصون مرحين، وخلفهم كنت تسمع من حين لآخر أهزوجة جميلة الإيقاع يصعب أن تنقل الترجمة نغمها العذب والمتحدي تقول مقدمتها: (نحن هنا: حتى ولو ماكرون لا يريد، نحن هنا لشرف الذين يعملون، ولأجل عالم أفضل، حتى ولو ماكرون لا يريد ذلك)، يستحيل عليك ألا تشاركهم طرباً بما تسمع، يرفعون قبضاتهم فتحذو حذوهم، وعلى إيقاع الهتاف المتنوع ورقص الفتيات والفتيان، الذين تجاوز عددهم الأربعين ألفاً، كنت تسمعهم ينددون بالرأسمالية ويسخرون منها ومن أطماعها وتكالبها، إنه عيدهم الذي فرضوه بالقوة على الحكومات اليمينية، وجعلوها توافق صاغرة على أن الأول من أيار يوم عيد وطني تعطل فيها الدوائر الحكومية عملها. وهو عيد عالمي رغم أنف قوى الاستغلال الرأسمالي.غير أن نهاية أخرى كانت بانتظار مسيرة الأربعاء، إذ ساد وبصورة مفاجئة توتراً، في الوقت الذي اقتربت فيه المظاهرة من خط النهاية، وذلك عندما راحت قوى الشرطة تطلق القنابل المسيلة للدموع، محاولة تفريق المتظاهرين بالعنف، بذريعة إقدام عناصر من الكتلة السوداء (بلاك بلوك) الذين يرتدون الملابس والأقنعة السوداء لإخفاء هوياتهم على تخريب الممتلكات العامة، وعلى التكسير، والتحطيم، وإشعال الحرائق،وقد قدمت هذه العناصر بما قامت به أفضل خدمة لبوليس ماكرون للعمل على إنهاء تلك المظاهرة الرائعة لقوى اليسار، ولتفريق تلك الجموع الشجاعة المتحدية وحرمانها من أن تنعم في المساء بخاتمة تليق بها، خاتمة سعيدة لذاك اليوم المجيد.

العدد 1104 - 24/4/2024