الدولة العلمانية الديمقراطية هي الحل

محمد علي شعبان:

في الربع الأخير من  القرن الماضي كان الصراع في سورية  بين أحزاب قومية، وأحزاب  ماركسية، كانت السمة  اليسارية هي الغالبة  على معظم الأحزاب في تلك الفترة، حتى أن معظم الأحزاب الشيوعية كان في داخل صفوفها أعضاء من جميع القوميات الموجودة في سورية. وكانت الأحزاب القومية تدعو إلى قيام نظام اشتراكي كما تدعو الأحزاب الشيوعية. لكن المتغيرات الجديدة، التي رافقت احتلال العراق وأفغانستان من قبل القوات الأمريكية، أرخت بظلالها لا في العراق وحسب، فقد عمّت المنطقة العربية، واستخدمت مفردات نزوع قومي بشكل حاد، ومفردات طائفية تحمل بين أحرفها حقداً وكراهية متبادلين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ظهر الصراع المذهبي بين السنة والشيعة، وأعلنت اتهامات متبادلة بالعمالة للكيان الصهيوني من قبل الطرفين، قبل أن تنكشف الجهة الحقيقية التي تعاملت وطبّعت معه. وغاب الخطاب اليساري الجامع ، لصالح تقدم الخطاب الأمريكي، (خطاب المكونات الطائفية والمذهبية وتقوية العصبيات المتخلفة) وترافق ذلك مع  بدء انسحاب الرفاق والأصدقاء الأكراد من الأحزاب الشيوعية، التي تحوي داخلها من جميع المكونات  السورية ومن مختلف القوميات، وعادوا للانخراط في أحزاب كردية، كانواحتى الأمس القريب على خلافٍ معها. وجميعنا يذكر الصراع الحاد بين حزب  الاتحاد الوطني الكردستاني ، الذي كان يرأسه جلال طالباني وامتداده على الأرض السورية، والحزب الديمقراطي الكردستاني يرأسه مسعود البر زاني وامتداداته أيضاً. وبعد تمدّد حزب العمال الكردستاني ، بقيادة عبدا لله أوجلان ، وتغيير المعادلة عند أغلب الرفاق والأصدقاء الكرد، وجملة  المتغيرات هذه  تقول شيئاً محدداً. إن ظهور النزوع القومي والطائفي والمذهبي قد عملت من أجله قوى العدوان الاستعمارية التي تريد معظم  دول العالم ضعيفة  وهشة، من خلال إغراقها بحروب، داخلية تستنزفها لمصالحها، وخاصة الدول العربية، التي تمتلك ليس الثروة النفطية وحسب، إنما تمتلك العديد من الثروات الاستراتيجية والهامة. وباعتبار أن الدول العربية ضعيفة بطبيعتها، أصبح من السهل جداً، استباحتها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ومحاصرتها بعقوبات اقتصادية  ظالمة وجائرة. إن قوى العدوان الرأسمالي  وحلفاءها، يعملون بكلّ جدية من أجل تقسيم بلداننا على أسس، قومية، وطائفية، ومذهبية  لعدة أسباب أهمها:

1-تبييء الكيان الصهيوني بسماته العنصرية، في حال قيام دويلات قومية أو طائفية في الإقليم. ليصبح وجوده حلة طبيعية .

2-إيجاد المبررات للتدخل بشؤوننا الداخلية، مرة لحماية الأقليات القومية ومرة أخرى لحماية الأقليات الطائفية وأخرى لحماية أي أحد من أي أحد آخر، ليؤكدوا للعالم أننا شعوب تحتاج إلى الوصاية والتدخل الدائم بشؤوننا. فهل تتنبه القوى السياسية لخطورة المرحلة التي نمر بها؟ إن قوى العدوان المتوحشة التي تعمل على فرض هيمنتها على العالم، هي وحدها المستفيدة من إضعاف الدول وحصارها والعقوبات التي تفرض عليها.

لاشك أن جميع القوميات الموجودة على الساحة العربية بشكل عام ، وعلى الأرض السورية بشكل خاص، مدعوة للتنبه إلى خطورة المرحلة الراهنة واللعب المقصود من قبل قوى العدوان بهذه المكونات بغية خلق وقائع جديدة، تفرض على الشعوب عبر تعبيرات سياسية، ساهمت في صناعتها قوى العدوان وحلفاؤها في جميع الساحات. وعندما أقول : (جميع القوميات) فإني أقصد  ما أقول. ليس هناك قومية لم تخطئ. والنزوع القومي والسلوك الذي مارسته كل قومية بمفردها سواء بفعل أو بردة فعل على فعل، هو سلوك يحتاج إلى تصويب، لأنه خاطئ بالتأكيد. والقوميون العرب، بحكم قانون الغالبية، يتحملون المسؤولية الأعلى، بعدم خلق حالة اندماج وطني تتماهى به باقي القوميات.

إن ما يجب أن يعرفه الجميع، هو أن الدولة العلمانية الديمقراطية هي الملاذ الآمن للجميع، دون تمييز بين المواطنين على أسس طائفية أو مذهبية، أو قومية. إن أية دولة غير ديمقراطية تحمل في داخلها عصبيات ليس ضد الآخر وحسب إنما تحمل في  داخلها النزعات العائلية، والعشائرية، التي تمنع قيام دوله ديمقراطية، في ظل استحضار هذه الأطر المتخلفة التي تستمد قوتها من أطراف خارجية  تجعلها أدوات لها، كي تتمكن من تنفيذ مشاريعها التقسيمية وخلق الصراعات الدائمة وصولاً إلى الصراع داخل العائلة الواحدة. إن بعض الشخصيات الطامحة إلى سلطة ما، وهي موجودة في معظم المناطق، ومشبعة بثقافة المصلحة الخاصة التي كرست خلال نصف قرن من الزمن، تحولت إلى أدوات لقوى العدوان مقابل حفنة من المال، ومنصب صغير، وهي تشكل خطراً حقيقياً على البنية المجتمعية الموجودة فيها.

في النهاية، أعتقد أن الدولة العلمانية الديمقراطية القوية، وحدها، هي الكفيلة بحماية مواطنيها دون تمييز، وأن جميع الأطر الأخرى، القومية، والطائفية، وغيرها، تأخذ أصحابها إلى الحروب الأهلية والويلات ، التي تذهب ضحيتها الطبقة المفقرة وتزهق أرواح الأبرياء، للوصول إلى دويلات كرتونية، وظيفتها الصراع مع الجميع، وأداة للجميع، وليس لها خيارات سوى تنفيذ ما يطلب منها.

فهل يتنبّه الأصدقاء الطامحون إلى ضرورة العمل على تشكيل دولة علمانية قوية؟ أم يذهبون باتجاه مصالحهم الخاصة التي تتعارض مع مصلحة الجميع؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.

العدد 1104 - 24/4/2024