ثقافـة الاختـلاف

ريم الحسين:

(الاختلاف في الرّأي ينبغي ألّا يؤدي إلى العداء، وإلّا لكنت أنا وزوجتي من ألدّ الأعداء).

مقولة بسيطة لغاندي كفيلة باختصار ثقافة الاختلاف، هذه الثقافة الّتي نادراً ما ترى أحداً يفهمها أو يقتنع بها، ولدينا فائض من الإقصاء وممارسة العداء لكلّ من يخالف رأي الآخر، فمصادرة الرّأي وكمّ الأفواه هي السّياسة_ لن نقول الحكوميّة كما جرت العادة_ إنّما الاجتماعيّة بشكل أكبر، وأصبح ديكتاتور الأشخاص يلقي بظلّه بشكل مخيف قد يؤدّي إلى نتائج لا تُحمد عقباها لكلّ الأطراف.

إحدى أهمّ مشاكلنا الاجتماعية والثّقافية اليوم والّتي أصبحت تدعو للدّهشة هي عدم تقبّل الآخر، وعدم القدرة على استيعاب موقفه، وإنّما فوراً يبدأ كيل الاتهامات والشّتم والتّشهير. حتّى الآن، البعض لا يعتمد مبدأ مقارعة الفكرة بالفكرة، وإنّما استهداف الشّخص نفسه، وتحويله إلى شخص سيّئ على أقلّ تقدير، أو عميل للعدوّ! حتّى وإن لم يكن الخلاف سياسيّاً!

لدينا في مجتمعاتنا استبداد تخوينيّ مرعب للآخر، لمجرد اختلافه معنا في الرّأي، وهذا مرض قديم لكن سمحت وسائل التّواصل الاجتماعيّ بانتشار هذه الظاهرة بشكل أكبر، وقد جرى استخدامها وتوظيفها بشكل مسيء. يكفي لأحد أن يُنشئ صفحة ويروّج لنفسه، وبعدها يبدأ ببّث السّموم والهجوم على من يخالفه الرّأي، واللّافت هو مشاركة بعض الشّخصيات المحسوبة على الشريحة المثقّفة في هذا الماراثون التّخوينيّ القديم الجديد.

اليوم لم تعد مشكلتنا فقط مع العدوّ الخارجي وأدواته التكفيريّة، مشكلتنا أيضاً مع الأشخاص ذوي الأجندات الخاصّة أو العامّة (التّخوينيون) والّذين لا تفوتهم مناسبة إلا ويبدأ لديهم كيل الاتهامات في كلّ الاتجاهات، لأسباب تتعلّق بالشّخصنة أو تنفيذاً لأوامر مموّليهم أو داعميهم أو مجرد تعنّت وغرور وحبٍّ للظهور، يمارسون (البلطجة) الإلكترونيّة والشّرطة والقضاة بقوانينهم فقط سواء كانت خاصّة أو أوامر، واللافت أنّك تطالبهم بمشروعهم البديل عند اعتراضهم على طروحات غيرهم فلا تجد لديهم إلّا رؤوساً خاوية وعقلاً حجريّاً، من الصّعب بمكان فهم حتّى سبب ثورانه الحقيقيّ، فهو لا يطرح أفكاراً مشابهة أو مضادّة مع تعليله لها، وإنّما الهدف النّقد السّلبي فقط والصّراخ والتّهويل ، تعصّب دون إدراك أو عن سبق إصرار.

حين سُئل قاتل المفكر فرج فودة أثناء المحاكمة: (لماذا اغتلت فرج فودة؟ فقال: لأنّه كافر، فسألوه: ومن أيّ من كتبه عرفت أنّه كافر؟ فقال: أنا لم أقرأ كتبه.. فأنا لا أقرأ ولا أكتب)!

هذا نموذج من آلاف النّماذج للأدوات الّتي يستخدمها الفكر المتشدّد، وإذا كانت هذه النّماذج مكرّرة ولكن تحت غطاء الفكر فالكارثة أعظم! وهؤلاء لا يختلفون عن هذا القاتل على الإطلاق، فهم حتّى لو قرأ فيهم أحد الأقطاب وبدأ بشن الهجمات لأسبابه يبدأ معه جوقة المردّدين دون دراية فقط لأنّهم أتباع، كما حصل مرة أن نقل أحد المحاربين لحريّة الرّأي مقالاً عن صحيفة أمريكية واجتزأ كلاماً غيّر به كلّ المحتوى، وبدأ من بعده بعض المطبّلين بالنّقل ولم يكلّف واحد فيهم نفسه عناء التّرجمة وفهم محتواه! فقط للنّيل من مطالبات شعبيّة محقّة والاقتصاص من أصحاب الدّعوات! وهذه فرصة كانت ذهبيّة للعدوّ ليقوم باستثمارها نتيجة الجهل والتّعصب وممارسة حرب نفسيّة على الشّعب كان العدو أولى بها، وليس أصحاب الفكر الوطنيين والمثقّفين الحالمين بمستقبل مشرق لهذا الوطن.

التّعددية الفكريّة ضرورة ملحّة بعد هذه الحرب، حتّى يتمكّن أصحاب القرار من اتخاذ قراراتهم بشكل صحيح وعادل يضمن الاستقرار والأمان لهذا البلد الّذي نهش فيه الخراب. فكيف سيبدأ البناء بالنّسيج الاجتماعيّ وهو في صراع على حقّ الملكية الفكريّة ويحاول كتم كل صوت غير صوته بشتّى الوسائل والأساليب والتّرهيب، الّتي أقلّ ما يقال عنها إنها همجيّة، في هذا العصر المتجدّد فكريّاً وثقافيّاً.

وهنا تأتي الحاجة إلى سنّ قوانين تحترم حريّة الأفراد في التّعبير دون الإساءة، وأن تكون تكلفة أي إساءة كبيرة حتّى يتعلّم من تسوّل له نفسه ممارسة الإلغاء والتّشويه أن يحترم رأي الآخرين ويناقشهم ويردّ على الفكرة بالفكرة وليس بشتم الآخرين والاستهزاء بهم. فعندئذٍ فقط إما أنه سيتعلّم الحوار الرّاقي المفيد، أو فليسكت ويدع غيره ممن يحلمون ببناء وطن أن يتابعوا مسيرة رفد الأفكار والآراء للنّهوض والوعي المجتمعيّ والوطنيّ.

الانتماء إلى الوطن والوطنيّة لا يعني تحجّرك وتقوقعك بأفكار قديمة أو أجندات لأشخاص آخر همّهم هذا الوطن وتأتي طروحاتهم في إطار توّجهاتهم الشّخصية ومصالحهم الخاصّة قطعاً، كلّ في مكانه يمارس هذا الانتماء، وإن تمّ النّقد البنّاء والإيجابي والمثمر والّذي هو حالة طبيعيّة وصحيّة فليس لـ (وهن) عزيمة الأمّة أو لأنّ المنتقد ينتمي (للماسونيّة العالميّة) وإنّما حبّاً بهذا الوطن والغيرة على مصالحه والرّغبة في تدارك الأخطاء حتّى يعمّ السّلام والأمان والحداثة.

(ليس من العجيب أن يختلف النّاس في ميولهم وأذواقهم، ولكن، بالأحرى العجيب أن يتخاصموا من أجل هذا الاختلاف).

عبارة المفكّر العراقي عليّ الوردي هي حصيلة رؤية واضحة وشاملة لهذه المجتمعات المغلقة الرّافضة لأي فكر أو نقاش أو حوار، والّذي يتحوّل غالباً إلى معارك طاحنة وحرب ضروس تبدأ بالنّهر وتنتهي بالشّتم أو الضّرب. الاختلاف وتعدد الآراء جوهره العقل والعاطفة والمعلومات، وهنا علينا فهم أنّه طبيعيّ وصحيّ وأنه لا يؤدي إلى الخلاف الهدّام.

في سورية الحداثة والتّنوير كما نراها لاحقاً مركز إشعاع علميّ وفكريّ، وحتى نحقّق هذا الحلم علينا أن نفهم ثقافة الحوار وندافع عن الاختلاف، ونقدّم كل جهد من شأنه المساهمة في رفعتها ونهوضها، وتحويل الحرب إلى نقطة تحّول عظيمة لبلد نراه عظيماً.

المجد للشّهداء، حماة الدّيار عليكم سلام.

العدد 1105 - 01/5/2024