فضاءات ضيقة | اليوم العالمي للشعر.. المجد لشعراء الحرية والنزعة الإنسانية!

د. عاطف البطرس:

الشعر من أقدم الأجناس الأدبية، بدأ بالحداء، ثم الغناء متلازماً مع الرقص، وبعد ذلك انفصل واستقلّ مكوّناً جنساً أدبياً له أنظمته، وقوانينه، ووظائفه المتعددة التي من أهمّها: تنظيم إيقاع العمل الجماعي مما يساعد على زيادة الإنتاج.

الشعر إنتاج فردي (ذاتي)، لكنه يحمل وظائف ويكتسب خصائص اجتماعية، علاوةً على وظيفته الفنية.

يحاول بعضهم تجريد الشعر وتفكيكه بعزله عن طبيعته ووظيفته، بالقول بفنّيّته فقط: كلما ابتعد الشعر عن وظائفه الاجتماعية وغيرها اقترب من فنّيّته، وكرّس نفسه للفن وللجمال.

لا تتعارض فنّية الشعر وجمالياته مع وظائفه المختلفة، والفصل بينهما إخلال بالشعر، إلا أن ابتعاد الشعر عن الفنّية والاكتفاء بالوظيفة الاجتماعية هو انتقاص من قيمته والتقليل من أهميته.

الحكم على الشعر في النهاية هو حكمٌ على الفنّيّ فيه لا على الموضوع، فقد حمل الشعر من الوظائف ما لا طاقة له بها، وذلك على حساب جمالياته والعناية بمهارات صياغاته التي تأخذ أفقاً مفتوحاً من التجريب والتنوع تبعاً لثقافة كل شعب من الشعوب، وتجربته وخصائصه.

صحيح أن الشعر تخاطُب بين روحين وهو من أكثر الفنون الأدبية وجدانية، لكنه أيضاً يحمل في طياته محتوى جمعياً، يجسد قيماً وأفكاراً ويصوغ تجارب الشعوب التي ينتمي إليها، ويعكس تطورها العقلي ورؤيتها للعالم.

منذ فجر أول صرخة أدبية، إلى أحدث منجَزٍ شعريّ، كان صوت الحرية مدوّياً صارخاً.. الإنسان غاية الوجود، ومن أجل سعادته وحريته وجدت الفنون والآداب والشعر في المقدمة منه… فتبارك شعراء الحرية والنزعة الإنسانية، على أيّ أرض كانوا، وإلى أيّ شعب انتسبوا، وفي أيّ عصر عاشوا، من هوميروس إلى أوفيد، فدانتي إلى شيلي، وشلر، وبوشكين، وبايرون، وإيلوار، وأراغون، ونيرودا، وناظم حكمت، وغيرهم وغيرهم.

الشعر فن العرب الأول، وقد قيل: الشعر ديوان العرب، لأنه يمثل حياتهم ومستواهم العقلي ويسجل وقائعهم وأيامهم وأنسابهم وعاداتهم وتقاليدهم الخ. وهو قديم تقود نشأته إلى ما قبل ما يعرف بالعصر الجاهلي بمئات بل ربما آلاف السنين، أوج عطائه وخلاصة تجربته الفنية كانت فيما قبل الإسلام.

لم يخرج شعراء العربية الأوائل عن نهج شعراء العالم في التغني بالحرية مطلباً أساسياً للحياة، والهروب من حصار المكان وتضييق الزمان، فهذا طرفة بن العبد يخرج عن أعراف القبيلة محرّراً (أنا) الشاعر من (نحن) القبيلة، متحدّياً الاندماج والذوبان فيها، فتجربته تمرّد فردي وجودي على السائد والمألوف في عصره، وهذا عنترة يعلن تحرّره من العبودية، مغنّياً للحرية، مكافحاً من أجل الحصول عليها بالاعتراف به فارساً حراً كريماً، كذلك فعل المتنبي معظّماً نفسه التواقة إلى الرفعة والباحثة عن المجد.

حركة الشعراء الصعاليك شكلٌ جماعي من أشكال التمرد ورفض منظومة القيم القبلية، واحتجاج على التراتبية الاجتماعية في نظام بدأت تباشير انهياره وتداعيه بالتكوّن.

وكما غنى الشعراء للحرية كذلك دعوا إلى السلام وإشاعة الأمن والاستقرار، إذ لا يمكن أن تتقدم الشعوب والدول إلا إذا عمّ السلام فيها، فهذا زهير بن أبي سلمى ينشد في معلقته مادحاً صانعَي السلام اللذين تحمّلا ديات القتلى، ووضعا حدّاً لحرب بين عبس وذبيان دامت أكثر من 40 عاماً.

المجد للشعراء الذين حافظوا على شرف الكلمة، وجمالية الصياغة، وإنسانية المضمون، فكان السموّ بالإنسان ذوقاً، وإحساساً، ووعياً جمالياً ومعرفياً بكل ما يحيط به من مظاهر وظواهر، غايتَهم الكبرى.

مهما بدت لنا التجربة الشعرية ذاتيةً إلا أنها إنتاج اجتماعي، ووعي جمالي لا ينفصل عن تطور المجتمع ومستوى الثقافة فيه، وهي تعكس مجمل العلاقات الاجتماعية والإنسانية المتشابكة والمتطورة والمتغيرة، التي يحاول الشعراء، بكل ما أوتوا من قوة ومهارة، أن يجعلوا خط سيرها باتجاه الأفضل والأجمل والأكثر اكتمالاً.

 

العدد 1104 - 24/4/2024