درس بليغ في التفاوض

د. صياح عزام:

التقى الرئيسان الأمريكي دونالد ترامب، ونظيره الكوري الديمقراطي كيم جونغ أون، في قمة ثانية في هانوي استمرت يومي الأربعاء والخميس 27 و28 شباط ،2019 وذلك بعد القمة الأولى في شهر حزيران من العام الماضي في سنغافورة، وبذلك تكون قد فتحت الباب أمام بقاء الاتصالات بينهما مفتوحة، وهذا بحد ذاته أمر مهم.

بطبيعة الحال لكل منهما شروطه وأهدافه.. ترامب يسعى إلى نزع أسلحة بيونغ يانغ النووية، والعودة إلى واشنطن منتصراً وإشهار هذا النصر في وجه خصومه، وكيم يريد رفع العقوبات المفروضة على بلاده وإنهاء التهديدات الأمريكية لها، وبضمن ذلك سحب الوجود الأمريكي من كوريا الجنوبية.

إذاً، القمة كانت مثقلة برهانات كبيرة ومتناقضة. قبل القمة، لوّح ترامب بإغراءات كبيرة، منها أن كوريا الديمقراطية يمكن أن تصبح قوة اقتصادية كبرى إذا تخلت عن سلاحها النووي، وبالتأكيد أن هذا العرض الامريكي جاء لتحريض كوريا الديمقراطية على تقديم تنازلات، فضلاً عن إشاعة جو من الهدوء والتفاؤل قبل القمة.

أما كوريا الديمقراطية فمازالت ترى في تصريحات ترامب مجر وعود، ومما يجدر ذكره، أن موسكو وبكين كانتا حاضرتين على طاولة المحادثات، فقد نسق كيم مع العاصمتين قبل أن يتوجه إلى هانوي، لأنه من دون ذلك لا يمكنه أن يتفاوض مع ترامب من مركز القوة والندية.. والآن كيف انتهت هذه القمة وما هي نتائجها؟!

يمكن القول إن قمة ترامب – كيم الأخيرة في هانوي انتهت من دون التوصل إلى اتفاق، لأن الرئيس ترامب لم يكن مستعداً لرفع كل العقوبات المفروضة على كوريا الديمقراطية، هذا ما صرح به ترامب في اليوم الثاني للقمة (الخميس 28 شباط)، ولكنه أكد في تصريحه هذا أن الرئيس الكوري الديمقراطي أبلغه بأن بلاده لن تستأنف التجارب النووية والبالستية، كما أشار إلى أنه لا خطة الآن لعقد قمة جديدة (ثالثة) بينهما. وعن القمة الأولى في سنغافورة قال إنها كانت ودية جداً، وهناك دفء في العلاقات منذ انعقادها.

أما الرئيس الكوري الديمقراطي كيم فقد أكد أن فتح مكتب ارتباط أمريكي في عاصمة بلاده بيونغ يانع موضع ترحيب، وأنه حضر إلى هانوي على خلفية استعداده لنزع السلاح النووي لبلاده.

أيضاً القمة انتهت من دون صدور بيان مشترك عن سير القمة ونتائجها، كالمعتاد في مثل هذه القمم الدولية الهامة، إلى جانب أن البيت الأبيض أعلن أن القمة انتهت من دون التوصل إلى نتائج محددة أو اتفاق رسمي.

بشكل عام خرج كل من الرئيسين من القمة الثانية هذه متفائلاً، ويشير العديد من المراقبين والمحللين السياسيين إلى أن الخلاف، كما يبدو، هو على مسألة نزع السلاح النووي مقابل رفع جميع العقوبات المفروضة على كوريا الديمقراطية، إلى جانب أن الرئيس ترامب أكد أنه ليس مستعجلاً للتوصل إلى اتفاق حول نزع السلاح النووي، لأن ما يهمه كما زعم في اليوم الأول من اللقاء هو جوهر الاتفاق وليس سرعة التوصل إليه.

وللعلم فإن الزعيم الكوري طرح في المباحثات مسألة تفكيك موقع يونغ بيون، ولكن مع تخفيف العقوبات كمؤشر على رغبة التوصل إلى نتائج ملموسة.

على أي حال، يمكن القول إن الرهان الأمريكي على تطويع كوريا الديمقراطية قد فشل، فقد خرج ترامب من مفاوضات هانوي التي جمعته مع الرئيس كيم جونغ إيل، من سراب توقعاته بتحقيق نتائج سريعة وواعدة بالنسبة له ولبلاده، إلى الاعتراف بفشل المفاوضات بين سقفين يصعب الجمع بينهما، سقف أمريكي يعطي الأولوية لتفكيك البرنامج النووي الكوري كله فوراً، وسقف كوري ديمقراطي يضع الأولوية لرفع العقوبات كلها أو على الأقل لرفع جزئي مبدئياً.

إذاً، اتضح للملأ أن كوريا الديمقراطية بزعامة كيم جونغ أون قدمت للعالم درساً بليغاً وناجحاً في إتقان إدارة الصراع مع أعتى قوى استعمارية إمبرالية في العالم، وذلك من حيث الذهاب إلى أبعد مدى في الاستعداد للمواجهة العسكرية من جهة، وفي الاستعداد في الوقت نفسه للتفاوض من موقع القوة واستقلالية القرار الوطني، كما تبين أن الليونة التي أبداها الرئيس ترامب عندما أبقى باب التفاوض مفتوحاً، هي لإدراكه أنه ليس لديه من خيارات أخرى بديلة، مادامت كوريا الديمقراطية تمتلك قدرات صاروخية وأسلحة نووية متطورة تردع عدوانية ووحشية الولايات المتحدة الأمريكية فيما لو غامرت واشنطن بالاعتداء على كوريا.

العدد 1104 - 24/4/2024