سكاكينُ الكلماتِ ذَبحتْنا.. كفى!

غياث رمزي الجرف: 

(إنّ غلبةَ اللغة بغلبة أهلها، وإنّ منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم)

ابن خلدون

_1_

كثيرة هي المؤتمرات والندوات الثقافية والفكرية واللغوية العربية التي ترصد مشكلاتنا وقضايانا المختلفة وفي طليعتها قضية اللغة العربية، وآلام المواطن العربي وآماله وطموحاته وأحلامه بأن يحيا حياة إنسانية حرّة كريمة.

وهذه المؤتمرات والندوات ترى أن المنطقة العربية تمرّ بمرحلة خطرة من تاريخها، وأن الإمبراطورية الأمريكية والقوى الاستعمارية والصهيونية تريد تغيير نسيج المنطقة الثقافي واللغوي (..؟).

وتقرر (المؤتمرات والندوات) أَنّ للثقافة واللغة أهمية بالغة في تقارب وحدة الشعوب العربية، وتضييق الفجوات الناجمة عن السياسات والإيديولوجيات التي تدفعها إلى مسارات التباعد والافتراق؟

أما ما كُتب، ويُكتب، في مسألة اللغة العربية و(أزمتها) في مختلف الأقطار العربية، من كتب وكتيبات وأبحاث ومقالات… فحدّث ولا حرج.

والسؤال: ماذا كانت محصلة هذه المؤتمرات والندوات والكتب والأحاديث؟

لا نبالغ على الإطلاق إذا قلنا: لا شيء (؟!) فالوقائع على الأرض والمعطيات كلّها تقول: إنّ كل شيء يسير باتجاه المزيد من الفساد والتردي على المستويات كافة، وتقول: إنّ التباعد والافتراق والتنابذ غدا ناموسنا، وإنّ تدنّي العربية في ازدياد واطّراد (..؟).

_2_

لقد قرأتُ في الأيام القليلة الماضية أكثر من ثلاثين كتاباً ومقالاً وبحثاً، جميعها تتناول مشكلاتنا اللغوية، وموضوع اللغة العربية ومفرداتها ووجوهها المختلفة وبلاغتها، وما يعتري هذه اللغة من ضعف وما يهددها من أخطار وتحديات على الصعيدين الداخلي والخارجي… فوجدتُ أنّ معظم هذه الكتابات، إنْ لم نقل كلها، لم تضع يدها على جوهر المشكلة، ولم تذهب عميقاً في صلب (أزمة) اللغة العربية والناطقين بها في وقتنا الراهن. ولستُ أعدو الصواب أو الدقة إنْ قلت أنّ أغلب هذه الكتابات تميل ميلاً شديداً إلى (اللفظية والإنشائية والخطابية)، وإلى الإسهاب والإطناب، وكثرة (التضمينات) والتفاني في مدح العربية، وتبيان خصائصها ومزاياها ومكانتها الجليلة وعظمتها وقداستها، والتسبيح بحمدها… ووجدتُ أنّها كُتبتْ بأسلوب تقليدي ومدرسي واحتفالي خطابي، وبروح تقريرية وصفية تسجيلية وحماسية يغلب عليها الطابع (الشعاراتي) والمنطق (الاتهامي) فالإمبريالية الأمريكية والغربية والصهيونية التلمودية والعولمة تعمل على ضرب مرتكزات وجودنا القومي، وتهشيم هويتنا ولغتنا وثقافتنا على وجه الإجمال (..؟).

_3_

والذي يهمنا في هذا المقام الحديث بشكل مختصر عن ظاهرة (اللفظية والإنشائية والخطابية) التي تستعمرنا من شعر رأسنا حتى أصابع قدمينا. فهذه الظاهرة لها علاقة مباشرة ببنية تفكيرنا، وسلوكنا اللغوي، وكتاباتنا الأدبية وغير الأدبية، ولها علاقة بحياتنا العامة والخاصة، وبمفردات وجودنا ومناسباتنا المختلفة (في الأفراح والأتراح وفي الأعياد الشخصية، والدينية، والوطنية، والقومية، والإنسانية..)

عندما تصل حضارة أيّ أمة من الأمم إلى نهاية قدرتها، أو قريباً منها، في الإبداع وابتكار الأشكال وصياغة الحياة صياغة جديدة تبدأ كفّة اللفظ بالرجحان، وتشيع نزعة غالبة في التكثير منه، وتتعدد المذاهب في صنعته وتزيينه.. فمثلاً، حين يسمع السامع أو يقرأ القارئ_ في كثير من الأحيان_ كلاماً ووصفاً لأجلّ (المناسبات) وأحزنها وأفجعها وأكثرها تراجيدية على لسان سياسي أو كاتب أو شاعر أو خطيب.. وحتى على لسان الإنسان العادي في مذابح وجرائم ومجازر موصوفة (كالذي جرى في سورية وفلسطين واليمن والعراق وجنوب لبنان..) ماذا يجد القارئ بعد قراءة تأملية؟ يجد أن الكلام والوصف قد طارا بعيداً من جلال (المناسبة) التي هزّت عقولنا ووجداننا.. ولم يبقَ منها إلا ألفاظ رنّانة طنّانة سطحية جوفاء مجموعة في جمل مُزَخْرَفَة، مُزركشة، منْحوتة لا تحرك في قارئها، على كثرة كلماتها أو صفحاتها التي ارتصّت فيها، لا تحرك شعوراً وإحساساً بأثرها على الرغم مما حفرته تلك المذابح والجرائم والمجازر في ضميرنا وفي العميق منا.

إنّ الميل إلى التزيين والزركشة والإفاضة في اللفظ، وغلبة النزعة اللفظية في الصياغة والإحتفاء بها ما تزال حيّة ونمارسها بإسراف حتى يومنا هذا (..؟). ومن يقرأ، على سبيل المثال، كتاب أمين الخولي (مشكلات حياتنا اللغوية) ومن يقرأ ما يُكتب هذه الأيام، عموماً، لن يخرج منه ومنها إلا بالقليل القليل على كثرة الكلام وترديده.

أما النزعة إلى الإنشائية التي تعني، فيما تعني، انقطاع الكلمة عن الفكر أو الإحساس.. ودورانها على الألسنة أشبه ما يكون بالثرثرة.. وفي التحليل الأخير النزعة الإنشائية ما هي إلا الرغبة في الكلام الذي لا تمليه حوافز حيّة في النفس، وأفكار واضحة عن الأشياء، وإحساس حيّ بالحياة ومكان الكلمة منها وارتباطها بها وفعلها فيها، وإنما تمليه الحاجة إلى الكلام، تعويضاً عن العجز في الفعل أحياناً، أو ارتزاقاً بالكلمة أحياناً أخرى، أو تغطية على حقيقة لا سبيل إلى الجهر بها، أو لا سبيل إلى إعلانها سراً أو جهراً. فبهذه الدلالة، إذاً، تكون هذه الظاهرة وجهاً من وجوه الموقف الحضاري العاجز الذي يدمنه هذا أو ذاك، ذلك أن (هذا أو ذاك) يستطيع أنْ يقول كلاماً كثيراً دون أنْ يقول فيه شيئاً، لأنه يستطيع أنْ يعيش زمناً/ عمراً طويلاً دون أنْ يحياه، أي دون أنْ يقترب فيه من نفسه ويتملى حقائقها ويرتعش لها، فليس المهم لديه، في كثير من الأحيان، أنْ يحس بدفقة الحياة فيما يقوله وما يفعله.. إنّه يكتب ويقول كلاماً إنشائياً خاوياً مثل حياته الخاوية.

إن الكثير مما يُكتب، وينطق به اللسان في وقتنا الراهن.. عاموده الفقري اللفظية والإنشائية والخطابية التي هي في جوهرها اندفاعات منقطعة وبراعة أسلوبية تعتمد على الإيقاعات، وكثرة المترادفات، وعلى الألفاظ الفخمة، والعبارات الحماسية الطنانة، ذات النبر العالي.. وعلى الفصاحة وجمالية الكلمات التي تتجنب الفكر والتأمل والجهد والبحث… ومن ثم تنصرف عن مخاطبة الرأس (…) وتندفع بقوة جارفة نحو مخاطبة المشاعر والعواطف. فتمس الذاكرة وتثير الأشجان، وتهيج (الروح العربية الخطابية المشتعلة).. وكل ذلك بهدف الهيمنة على القارئ/ السامع فيطرب، ويصفق، ظاهرياً أو باطنياً، دون أن يعي أو يفكر أو يتأمل.

(انظر: أبو القاسم الشابي/ الخيال الشعري عند العرب_ د.عبد الكريم الأشتر/ الموقف الأدبي 2007_ توفيق الحكيم/ فنّ الأدب).

_4_

في ختام هذه المقاربة لنا كلمتان:

الأولى: لن (تنهض) وتتطور اللغة العربية ما لم (ينهض) ويتطور أصحابها أنفسهم، ولن تكون لغة حيّة إلا إذا حرص أصحابها على الحياة، ولن تكون لغة قادرة على الوفاء باحتياجات العصر إلا إذا ارتفع أصحابها إلى مستوى العصر، على حدّ تعبير العميد طه حسين.

والثانية: إنّ مشروع النهوض باللغة العربية دون انتهاج سياسة ثقافية، لغوية، تربوية واضحة المعالم متكاملة ومترابطة وموضوعية، قابلة للتطبيق والقياس، وبعيدة عن الشعارات والضبابية ولغة المنابر.. ودون إرادة سياسية ثابتة وحازمة وحاسمة يكون، أي المشروع، قفزة في الفراغ.

العدد 1104 - 24/4/2024