الأديان والموسيقا

طلال الإمام/ السويد:

مساء الخير الحضور الكريم!

اشكر منتدى العلمانيين السوريين في السويد على الفعاليات التنويرية التي يقيمها.

كما أشكره على إتاحة الفرصة للتحدث حول مسألة الأديان والموسيقا أو كيف سخرت الأديان الموسيقا كما الغناء من أجل زيادة انتشارها ونفوذها.

بداية لابد من بضع كلمات:

الموسيقا حاجة ضرورية للإنسان كما للطبيعة، وهي من وسائل التعبير الأكثر رقياً عن المشاعر. غير أنها كما بقية الاكتشافات يمكن استخدامها بأشكال مختلفة، وذلك حسب القوى التي تستخدمها وأهدافها…. كما الذرة مثلاً إذ يمكن استخدامها لخدمة البشرية وتطورها أو لتدمير البشر والحجر.

وعندما نشير إلى أن القوى الدينية المتطرفة تستغل الموسيقا  لغاياتها الشريرة وتجييش الناس، وتستخدمها كسلاح من أجل نشر فكرها، فإننا نرمي إلى أهمية العمل كي تبقى الموسيقا تؤدي دورها الروحي الإنساني والراقي، ونزع الطابع التحريضي عنها.

بكلمات أخرى، كما أن العلمانية تعني فيما تعنيه فصل الدين عن الدولة والمدرسة، فإننا نريد فصل الموسيقا، وجميع أشكال الفنون، عن استخدامها للترغيب او الترهيب والتجييش.

سيدور الحديث وفق المحاور التالية:

أولاً – تعريف سريع بالموسيقا وتأثيراتها المتنوعة.

ثانياً- كيف استخدمت الديانات قديمها وحديثها الموسيقا ولماذا .

ثالثاً- خاتمة .

سوف أبدأ بسؤال وهو:

ما سر استخدام التراتيل في الكنائس؟ ما سر تلحين الأذان عند بلال؟ ولماذا يتم اختيار الأصوات الشجية للأذان أو التراتيل؟ لماذا تستخدم أحياناً الأغاني الدينية في المناسبات حتى غير الدينية (وفاة، زواج، أو حتى في السهرات العامة)؟ هل ثمة علاقة بين الأغنية السياسية والدينية، أو بالأحرى هل الأغنية الدينية سياسية؟ وأسئلة أخرى كثيرة تحتاج إلى البحث .

 

أولاً – ما هي الموسيقا؟

يتأثر الإنسان كما الحيوان والنبات على حد سواء بالموسيقا. عند سماع نغمات موسيقية تحدث بعض التغيرات الكيميائية التي يمتد  تأثيرها إلى جميع حواس الإنسان بما فيها التفكير والتنفس والعاطفة. السبب هو أن الموسيقا تحفز المخ على إفراز مادة  الأندروفين التي تقلل من الإحساس بالألم. أوصى ابن سينا مثلاً fالاستماع للموسيقا لأنها تسكن الأوجاع، قال: (إن المشي الطويل، والغناء والانشغال بما يفرح الإنسان، هي من مسكنات الأوجاع).

استخدمت الموسيقا والأناشيد الوطنية لبث روح الحماسة بين المقاتلين. وهناك أغاني الحصادين كما البحارة وقدوم الصيف.

إن أوضح مثال على دور الموسيقا في التهدئة هو قيام الأم بالغناء لولدها أو الدندنة كي ينام. وهناك من يقول باستخدام الموسيقا مكان المخدر في بعض فروع الطب عند إجراء عمليات جراحية مثل طب الأسنان. الطب النفسي هو أكثر من يستخدم الموسيقا في العلاج .

من الجدير ذكره أن النبات يذبل في أماكن الضوضاء، كما أن الأبقار تدر حليباً لدى استماعها للموسيقا. هناك طبيب نمساوي توصل إلى أن الاستماع لمدة ثلاث ساعات يومياً إلى الموسيقا الكلاسيكية يساعد على إنقاص الوزن وتنشيط الجسم كما تزيد من كفاءة العضلات.

ربما لهذه الأسباب مجتمعة أو لغيرها، انتبهت الأديان إلى أهمية استخدام الموسيقا والغناء كسلاح من أجل السيطرة والانتشار، مستغلة حاجات الروح الإنسانية، وهذا ما سنلمسه في المحور الثاني.

ثانياً – كيف استخدمت الأديان قديمها وحديثها الموسيقا؟

احتلت الموسيقا حيزاً كبيراً في الشعائر الدينية عند كثير من الحضارات القديمة، إذ كانت وسيلة للصلاة ومناجاة للآلهة والتواصل الروحي معها.. لكنهاإاضافة إلى ذلك كله كانت وسيلة لجذب الناس عبر محاكاة أرواحهم. يقال إن الحضارات الإغريقية وحضارات مابين النهرين وحضارة الفراعنة كلها كانت لديها آلهة للفن وأرباب للموسيقا. لقد بينت الاكتشافات الأثرية أن السومريين استخدموا الموسيقا لرفع مستوى الرهبة أثناء مراسم الطقوس الدينية. كان الكهنة يحسنون القراءة والكتابة ولديهم معرفة بالعلوم الأخرى مثل الرياضيات والفلسفة وغيرهما، وهذه الإمكانية لم تكن متاحة لعامة الناس في البداية… لذلك طبقوا هذه المعارف على الموسيقا المصاحبة لإنشاد التراتيل والتراتيل الدينية، واضطروا لإحداث وسيلة لتدوينها برموز وإشارات (نوطات) لتكون لغة موسيقية تطورت إلى نظريات في علم النغم والإيقاع والسلم الموسيقي. وكان للموسيقا والموسيقيين في حضارات بلاد الرافدين مكانة مرموقة، فاستخدموا القيثارة (الهارب) والمزهر وغيره في احتفالات آلهة الشمس والحرب والخصوبة من قبل جوقات مدربة تابعة لهياكل العبادة. كما كان هناك مدارس موسيقية خاصة.

ظهر الغناء والموسيقا في الحضارة الفرعونية منذ الأسرة الفرعونية الأولى عام 3400 قبل الميلاد. كان لدى فرعون مصر كما سائر ملوك سومر وبابل أعداداً كبيرة من الموسيقيين. كما ظهرت في نقوش جدران المعابد والقبور الملكية صور الراقصين والعازفين والمغنين. (صور المغني وهو يضع كفه الأيسر خلف أذنه وعلى الخد لتكبير الصوت وزيادة الإحساس بالرنين، وهذه الظاهرة منتشرة اليوم بين المنشدين وقارئي القرآن). كما توجد نقوش تعود إلى قبل الميلاد تضم مجموعة من العازفين على القيثار الكبيرة والنايات والمزمار المزدوج. ظهر في الوقت ذاته منشدون يشاركون في المناسبات الدينية والدنيوية كالزواج والوفاة.

كانت الموسيقا في العصر الفرعوني بمثابة صلة وصل بين الإله أو الآلهة والإنسان. كما اهتم اليونانيون باللحن والموسيقا والوزن الإيقاعي، إذ انتشرت الأغاني والتراتيل والأناشيد في معابد آلهتهم وطقوسهم الدينية تؤديها جوقات إنشاد من الكهنة. كانت تؤديها منشدات ومنشدون .

في بدايات المسيحية استعمل المسيحيون الموسيقا نفسها الموجودة عند اليهود، إذ كان المسيحيون يرتلون في طقوسهم المزامير بالألحان القديمة نفسها المستعملة عند اليهود بأسلوب يدعى (التنغيم البسيط). كما أخذ المسيحيون بتأليف تراتيل جديدة سميت (المزامير الخاصة) وصلنا منها ترتيلة (يا نوراً بهياً) التي تقال في صلاة الغروب حتى اليوم والتي تعد أقدم ترتيلة مسيحية وصلت إلينا، وكذلك (المجد لك يا مظهر النور). السجل الوحيد في الإنجيل للموسيقا الدينية كان خلال

العشاء الأخير للتلاميذ قبل صلب المسيح. خارج الإنجيل، هناك إشارات للموسيقا المسيحية تعود إلى بولس الذي قام بتشجيع أهل أفسس وكولوسي على استخدام المزامير، والتراتيل والأغاني الروحية، خلال اجتماعاتهم الدينية.

التدوين الموسيقي كان بأسلوب اليهود نفسه، باستعمال الحروف الأبجدية، كذلك استخدم المسيحيون الأساليب اليونانية في التدوين التي تعتمد أيضاً على الحروف الأبجدية.

تم استخدام الأدوات الموسيقية في وقت مبكر إلا أنه يبدو أن استعمالها أثار بعض الجدل. في أواخر القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس كتب القديس جيروم تحفظاته حول استعمال الآلات الموسيقية في القداس. ويعتقد أن جهاز الأورغ الموسيقي التقليدي ظهر في الكنائس خلال الفترة البابوية للبابا فيتالين في القرن السابع. شكلت التراتيل على مر العصور، موضوعاً لعدد من الأناشيد والقصائد الملحنة في الكنيسة والمجتمع، وغالباً ما يكون لهذه التراتيل طابع شعبي. غالبيّة هذه التراتيل الشعبيّة تتمحور حول عيد الميلاد، وإلى حد أقل حول عيد الفصح.

الجدير ذكره أن ثمة فروقات في الأداء الموسيقي والآلات المستخدمة بين الكنائس الشرقية والغربية كما بين الكنائس القديمة والحديثة التي ظهرت نتيجة الإصلاحات التي جرت في الكنيسة .

لن نتوسع في أشكال وأنواع الموسيقية المسيحية لأنها خارج إطار حديثنا، لكن يمكن لمن يريد التوسع الاطلاع عليها وهي متوفرة في الكتب كما في الإنترنيت.

في الإسلام استخدمت الموسيقا والغناء بأشكال مختلفة وفي مختلف العصور. اللافت للنظر أن مسألة الموسيقا في الإسلام كانت، ومازالت، مسألة خلافية جداً بين من يحرمها بالمطلق، ومن يحرمها على النساء فقط، ومن يضع لها حدوداً وضوابط شرعية وفق تفسيرهم لها. يرصد بعض الباحثين حضوراً  للموسيقا في موضوعات دينيَّة عديدة، إذ تظهر الأنغام الموسيقيَّة، واضحة جلية في العديد من الطقوس التعبديَّة، مثل الأذان، وترتيل القرآن، والتمجيد واستقبال شهر رمضان وتوديعه، كما في استقبال الحجاج والموالد .

لكن رغم كل التفسيرات والاختلافات بين الفقهاء حول الموسيقا، .نجد أنها منذ ظهور الإسلام ( طلع البدر علينا، المؤذن بلال) وحتى الآن تستخدم لغايات وأشكال مختلفة .غالباً ما نلمس في العديد من المجتمعات المتدينة كيف يتم في المناسبات العامة (ولادة، زواج، وفاة…) استخدام أغانٍ شعبية رائجة بعد تحوير كلماتها وتضمينها تعابير دينية من أجل جذب الناس. كما لا يجوز أن ننسى أيضاً الغناء في حلقات الذكر والصوفية وما شابهها.

لكن ليت الأمر توقف عند استخدام الموسيقا في المناسبات الدينية فقط. لقد امتد الأمر في السنوات الأخيرة إلى استخدام أغان وموسيقا تحريضية من قبل داعش وأمثالها. بل حتى وهي تنحر أطفالاً ونساء ورجالاً. وهو ما نلمسه بوضوح في مقاطع الفيديو التي ينشرها لترويع الناس وتخويفهم او لكسبهم.

هكذا بدلاً من أن تستخدم الموسيقا كغذاء للأرواح وبث الفرح والجمال،  بل وحتى الشفاء من بعض الأمراض كما ذكرنا سابقا، غدت، على أيدي المتطرفين من جميع الديانات والطوائف، سلاحاً فتاكاً لا يقل خطراً عن استخدام الأسلحة الفتاكة المعروفة. كما تستخدم تلك الجماعات الموسيقا والغناء كأداة تحريضية ضد الأديان، الطوائف والإثنيات الأخرى.

لابد من التأكيد ان استخدام الموسيقا والغناء بشكل تحريضي أوتجييشي لا يقتصر على دين بعينه، بل تستخدمه كل الأديان بأشكال مختلفة، يكفي القيام بجولة على ما يبث في مختلف وسائل الاعلام ( تلفزيون، راديو، وسائل التواصل الاجتماعي …) من تجييش، لنتأكد من أن ما يصرف على هذه الوسائل الإعلامية من أموال وخبرات يدرك أن لها أجندات أخرى تماماً عكس ما تدّعيه.

لماذا استخدمت الأديان الموسيقا؟

  • نزعم أن الأديان في سعيها لجذب الناس تلجأ إلى أساليب متعددة، فهي أدركت دور الموسيقا وتأثيرها على عقول الناس ومشاعرهم، لذلك تستخدمها في مختلف المناسبات وفي أشكال متعددة بشكل جماعي أو فردي. من حيث المبدأ لا يضرّ أبداً استخدام  الموسيقا من أجل نشر المحبة، التفاؤل والفرح، لأنها بهذا الشكل تلبي حاجة من حاجات الإنسان، لكن عندما تتجاوز هذا الدور وتتحول إلى أداة للتفرقة، والتجييش أو الترهيب، فمن الضروري منعها.
  • في المجتمعات العلمانية يمكن لمختلف الأديان أن تُمارس طقوسها بالغناء والموسيقا وغيره ضمن دور العبادة بكل حرية شرط أن لا تلحق ضرراً بالمجتمع.

ثالثاً – خاتمة .

مثلما تسعى العلمانية إلى كف يد رجال الدين عن التدخل في حياة  الناس الدنيوية والمجتمع والدولة عبر فصل الدين عن الدولة والتعليم، وأن ينحصر دورهم وممارسة طقوسهم في دور العبادة، فإنها تضمن في الوقت ذاته حقوقاً متساوية لجميع أفراد المجتمع بغض النظر عن خلفيتهم الدينية أو الطائفية، وبغض النظرعما إن كانوا يمارسون الطقوس الدينية أم لا، كانوا مؤمنين أم لا .

أخيراً مثلما تدعو حركات السلم العالمية وتناضل من أجل استخدام الذرة وجميع المكتشفات العلمية لأغراض سلمية، من أجل تطور المجتمعات وخير البشر، فإننا ندعو إلى استخدام الموسيقا وجميع الفنون من أجل تلبية الحاجات الروحية للإنسان ونزع الطابع التحريضي عنها. وهذا باعتقادنا لا يتحقق إلا في المجتمع العلماني

وهو ما نطمح إليه رغم إدراكنا لحجم الصعوبات ووعورة الطريق.

الدين لله والوطن للجميع !

شكراً.

 

المراجع:

* الغناء والموسيقا حلال ام حرام .محمد عمارة

* موقع الباحثون السوريين.

*  ويكيبيديا الموسوعة الحرة.

العدد 1104 - 24/4/2024