مقاربتان…

غياث رمزي الجرف:

(1)

لا نستطيع، بأي حال من الأحوال، الرد على تحديات الحاضر، وتحديات المستقبل، إلا بجهد نوعي عالٍ يُبذل على مختلف المستويات الفردية والجماعية والوطنية والقومية.. بجهد ينطلق من إرادة قوية حازمة، ومن تفكير حكيم قادر بشكل مبدع خلّاق على صياغة الرؤى الصحيحة والأفكار السديدة والتطلعات التي نرغب في تحقيقها ونتمناها في برامج ومناهج وخطط وقرارات.. في مختلف الحقول، وتحويلها إلى أرقام وحقائق وأعمال وإنجازات واضحة المعالم عبر طاقات تتسم بالفاعلية والعقلانية والنزاهة والصلاح والتضحية والشفافية.. على أن هذا كله يستلزم  كما يقول المفكر قسطنطين زريق  الوفاء بشرط أولي هو الذي يقرر مدى صحة الجهد المبذول وجدواه، أو فساده وضرره. هذا الشرط الأولي هو (تكوين) عقلية معينة ندعوها (العقلية المستقبلية) عقلية يقتضي أن يتصف بها المفكرون والعاملون، وأن تنساب في صفوف الحكم، وفي طبقات الشعب، وأن تغدو الحافز الدافع والضابط الموجه والطابع المميز لكل ما يرسم من خطط، وما يتخذ من قرارات وما ينفذ من أعمال.

إن (العقلية المستقبلية)، هاهنا، تحمل في الظاهر معنيين مختلفين، أولهما العقلية المطلوبة في الحاضر، المتوجهة إلى المستقبل، الواعية لمشكلاته، العاملة على الإعداد له، والثاني العقلية التي ينتظر أن تسود المستقبل ذاته، أو بكلام آخر العقلية المتطلعة للمستقبل من جهة، والعقلية التي سيتصف بها المستقبل من جهة أخرى (والمعنى الأول لا ينفصل في الواقع والجوهر عن المعنى الثاني)، ذلك أن العقلية الضرورية للإعداد للمستقبل هي ضرورية، أيضاً، لبقائه وازدهاره.

بناءً على هذه المعطيات تعدّ (العقلية المستقبلية) الشرط (لحتمي) اللازم (الذي لا يمكن أن يولد تلقائياً عفوياً، أو اعتباطياً، أو عبر عملية قيصرية) للتطلع المستقبلي وللوجود المستقبلي، والتطلع والوجود هما في نهاية الأمر مترابطان، إذ لا يحصل وجود صحيح من دون تطلع صحيح.

وبعد، تجدر الإشارة إلى أن أهم خاصة من خصائص التربية المطلة على المستقبل (على حدّ قول العلّامة الدكتور عبد الله عبد الدائم) العناية الكبرى التي ينبغي أن توليها لتكوين روح الخلق والإبداع، ومن مكرور القول أن نؤكد أن الحضارة الحديثة وليدة العقل المبدع المبتكر.

 

(2)

السيّد الرئيس بشار الأسد بيّن في خطاب القسم أنّ الأزمة السورية  في جانب من جوانبها  أفضتْ إلى جملة معطيات تقول بلا شبهة: إنّ كل إمبراطوريات السياسة والإعلام والنفط لا تساوي شيئاً أمام موقف وطني (واعٍ) نقي صادق.. أمام شعب موحَّد، حرّ، كريم.. والبلاد، أي بلاد، ليست بمساحتها، أو عدد سكانها، أو أموالها، أو نفطها.. وإنما ببعدها الحضاري الثقافي.. وبدور شعبها التاريخي، وبالسيادة والإرادة لمواجهة تحديات الحاضر، ولصناعة المستقبل.

وتقول: إذا كان السبب الأساسي لانغماس البعض في تدمير الوطن هو الجهل.. فإنّ الأساس الأخطر الذي بنيت عليه (محنتنا) هو تساقط القيم الإنسانية، والتردي الأخلاقي (بالارتباط العضوي مع بقية الأزمات على جميع المستويات..) الذي شكّل مع مرور الوقت عائقاً مدمراً أمام بناء وتطوير مجتمعنا الذي أرهقته المحنة وفكّكته وقطّعت أوصاله… فالبناء والتطوير لا يعتمدان فقط على الأنظمة والقوانين على أهميتها، لكن الأهم أن يعتمدا على ثقافة وطنية تنويرية مبنية على الأخلاق؛ ومن ثم لا بناء ولا تطوير دون ثقافة.. دون أخلاق، ودون معالجة مفردات (محنتنا) وحلها بشكل جذري.

هكذا تتكوّن لدينا معادلة حاسمة، طرفها الأول الأساس الثقافة والأخلاق، وطرفها الثاني البناء: تطوير الدولة ومؤسساتها، والنتيجة: أيّ بناء دون أساس قوي سليم.. هو بناء آيل للسقوط.

إنّ الثقافة بمعناها الواسع والشامل تشكّل الأساس الحاسم لبناء حضاري متكامل الأركان.. فالثقافة، بالضرورة وبحكم ظروفنا الراهنة على الصعد كافة، هي بمنزلة العمود الفقري في عملية التغيير والتحديث والتطوير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمعرفي في حقوله المختلفة.. وفي التوحّد الوطني والقومي وتحرير الإنسان من الجهل والتخلف والأمية الأبجدية، والأمية الثقافية والحضارية.

من هاهنا وتأسيساً على كل ما تقدّم لا بدّ لثقافتنا الوطنية التنويرية من أن تشنّ حرباً شعواء على التخلف والجهل والسلبية والفساد والفردية… وأن تلتزم قضايا الوطن الكبرى وحقوقه وأهدافه (…) والعمل على صيانته وحمايته وإعادة بنائه ماديّاً ومعنويّاً بكل ما تحمله هاتان الكلمتان من معانٍ ودلالات ومفردات وجودية أساسية منشودة… وأنْ تقف وقفة لا هوادة فيها في وجه قوى الهيمنة والاستغلال والنهب والتخريب… داخلياً وخارجياً (…) وفي وجه (الثقافة) الظلامية، المُغلقة، التكفيرية القاتلة.. وأنْ تقف، كذلك، في وجه (الثقافة) السلعية / التجارية المداهنة والخانعة.

وفي نهاية المطاف نقول: إن الثقافة الوطنية التنويرية الشاملة هي التي تعمل على حماية الوطن من التفتيت والتمزق على الصعد كلها.. وهي التي تسهم إسهاماً فعّالاً في بناء مجتمع عادل، حرّ، سيادي، تقدمي، وديمقراطي متعدد.

giathaljrf30@gmail.com

العدد 1104 - 24/4/2024