حول إشكالية الدولة
يونس صالح:
المتابع للحوار حول القضايا الإسلامية الراهنة، وبخاصة ما يتصل منها بالجانب السياسي، وفي مقدمتها إشكالية الدولة، يلمس في يسر غياب الوعي في جل الحالات بأن الفكر الإسلامي قد توقف عن الاجتهاد والتجديد منذ القرن السادس الهجري، ولا غرابة في ذلك، فقد بدأ خط ازدهار الحضارة العربية الإسلامية يتجه نحو الانحدار غداة تقلص دينامية المدنية العربية الإسلامية، وسيطرة ظاهرة الإقطاع العسكري من جهة، والمذاهب الدينية الأرثوذكسية – الأشعرية من جهة ثانية. وما برز بعد ذلك من فكر تجديدي هنا وهناك كان نادراً ما يندرج ضمن مد حضاري شامل ومتنوع كما كان الأمر في القرن الثالث أو الرابع للهجرة.
من الأسماء القليلة التي أضاءت بفكرها في مرحلة الأفول ابن رشد (520-595) في مجال الفلسفة، وابن خلدون (732-808) في مجال الفكر السياسي وعلم الاجتماع، وتلميذه المقريزي (766-845) في الإنسانيات.
أما الظاهرة الطاغية فكانت ظاهرة المتون والشروح والحواشي، وقد توافق ذلك مع انتشار الطرق الصوفية في مرحلة المماليك.
وهكذا نستطيع الحديث دون مبالغة عن قطيعة معرفية أو تكاد في مجال التجديد المعرفي امتدت ثمانية قرون، وهي المرحلة التاريخية التي عرفت سقوط بغداد، وبداية صراعين دمويين أديا إلى تفكك العالم الإسلامي وبروز مرحلة الدويلات الصغيرة في المشرق العربي، وضياع الأندلس في الغرب الإسلامي، وأعني بالصراعين الحروب الصليبية وحركة الاسترداد.
استطاعت الدولة العثمانية أن تعيد وحدة المشرق بقوتها الانكشارية، لكنها لم تنجح في إحياء الدينامية الحضارية التي عرفها العالم الإسلامي في القرون الخمسة الأولى للهجرة، ولابد من الإشارة هنا إلى أن مرحلة الأفول الحضاري لم تعرفها الحضارة الغربية، فمسيرتها متواصلة منذ القرن الثاني عشر حتى اليوم، وهذا ما يجعل المقارنة التي يقوم بها البعض لا تستقيم منهجياً.
لقد برزت غداة الصدمة الحضارة التي أحدثتها حملة نابليون على مصر نخبة آمنت بالإصلاح السياسي، واقتباس معالم التحديث الأوربي، محاولة التوفيق بينها وبين التراث الإسلامي، مدركة أن القطيعة المعرفية غير ممكنة. إن رجال هذه النخبة هم رواد الحركات الإصلاحية التي عرفها القرن التاسع عشر، ونجد ضمنهم رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1893) وأحمد فارس الشدياق (1804-1887) وجمال الدين الأفغاني (1828-1897) ومحمد عبده (1848-1905) وعبد الرحمن الكواكبي (1854-1902) وغيرهم.
ركز النهضويون العرب جهودهم على مسألتين أساسيتين: مقاومة الحكم المطلق والسعي للإفادة من تجربة الحداثة الأوربية، مدركين ضرورة إحياء الجوانب العقلانية المضيئة في التراث العربي الإسلامي.
فشلت الحركات الإصلاحية سياسياً، إذ لم تستطع الوقوف في وجه الحكم المطلق، ولم تتمكن أيضاً من إنقاذ البلدان العربية من الاستعمار المباشر، ولكنها نجحت فكرياً، إذ في أحضانها ولدت حركات التحرر الوطني التي قادت معارك الاستقلال، وأمِل المواطن العربي أن الدولة الوطنية الحديثة ستحقق أحلام النهضويين العرب، ولكنها سرعان ما انقلبت إلى دولة قامعة سيطر عليها الفكر الشمولي (باختلاف أشكاله).
يميل الكثير من الباحثين إلى الاعتقاد بأنه لو لم تحدث تلك القطيعة الفكرية وتواصل الاجتهاد الذي عرفته عصور الازدهار لتم الحسم في قضايا إسلامية مطروحة اليوم، ويغرق الناس في الحديث عنها، بل يبلغ الأمر حد الصراع في فهمها وتأويلها، وهي غالباً قضايا ثانوية لا تؤخر ولا تقدم، وليس من المصادفة أن بعض الجهات الدولية تغذي هذا الصراع الهامشي الشاغل عن معالجة القضايا المصيرية.
إن السؤال المحوري التي طرحته وتطرحه الأحداث التي جرت في عدد من البلدان العربية هو: ما هي طبيعة الدولة الجديدة التي ستشيد على أنقاض المرحلة السابقة؟ إن هذا التساؤل يكتسب خطورة وإلحاحاً بعدما لاحت في الأفق إمكانية محاولات حركات الإسلام السياسي للوصول إلى السلطة. وهنا يتساءل الناس محتارين: كيف يمكن الحديث عن دولة دينية في مطلع الألفية الثالثة، وبخاصة بعد أن شاهد الناس الويلات التي عاشها أو تعيشها اليوم دول أو مقاطعات تزعم أنها تطبق الشريعة الإسلامية؟
طغت الإشكالية على السطح بعد بروز فئات تطالب بإحياء الخلافة، ذاهبين إلى القول: إنها مؤسسة دينية، بيد أنه يمكن القول إن الأساليب الاستبدادية قد ارتكبت باسم الدين، ارتكبت باسم المسيحية، وباسم الإسلام.. لقد ارتكبت عندما وظف الدين لخدمة الاستبداد الزاخر في العالم العربي والإسلامي عبر التاريخ، ولا حاجة للإتيان بأمثلة على ذلك.
إذاً، إن توظيف الدين لخدمة الطغاة استمر في التاريخ السياسي ولايزال يستخدم إلى وقتنا الحاضر.
إن الدارس لفكر التيارات الإسلامية يلمس نقطة ضعف واضحة في مرجعياتها نتيجة عدم دراسة التجربة التاريخية للمجتمع العربي الإسلامي دراسة دقيقة وموضوعية، وهي تجربة ثرية ومتنوعة، ويلاحظ أن أنصارها يقفزون على التاريخ، ويطعنون أحياناً في حقائق تاريخية سجلها الأجداد بكل أمانة، ودون مركبات، ذلك أنهم أدركوا أن ما ارتكب من ظلم ناشئ من سلطة سياسية غير شرعية، ولا علاقة له بالدين، وإنما اتخذ الدين مطية، كما يتخذ الآن في كثير من الأحيان.
هناك مفهوم آخر طغى على السطح حالياً، وهو مفهوم ماضوي ضبابي، وأعني بذلك مفهوم (السلف الصالح) وقد انطلق من المفهوم اللغوي، فالسلف هو لغوياً المتقدمون، وسمي الصدر الأول من التابعين (السلف الصالح)، وهو الجيل الذي جاء بعد الصحابة، ولكن من هؤلاء؟ هل يمثلون فئة اجتماعية منسجمة ولها رؤية خاصة بها؟ إن من يتخذ اليوم (السلف الصالح) مثالاً يقتدي به، ينسى أنهم عاشوا في مرحلة تاريخية معينة قضاياها الخاصة جابهوها بأساليب عصرهم فأصابوا وأخطؤوا، شأنهم في ذلك شأن الجيل الذي سبقهم.
لا حرج أن يتأثر الناس اليوم بقيم الرموز البارزة في جيل السلف الصالح، أما أن تتخذ تجربة السلف لتطبق بعد مرور أربعة عشر قرناً، وفي عصر العولمة، فذلك أمر غريب، ومنطق أشد غرابة، ويقول الأتباع اليوم إن سبب تدهور العالم العربي والإسلامي وتخلفه هو عدم الأخذ بنموذج السلف الصالح! متى كانت المجتمعات تتقدم أو تتأخر لأسباب دينية؟
وفي العودة لإشكالية الدولة الدينية والدولة المدنية يمكن القول: إن الدولة الدينية التي عرفها التاريخ الإسلامي، استخدمت الدين في الكثير من الحالات لتبرير الطابع الاستبدادي للسلطة الحاكمة، والحفاظ على المصالح الضيقة لها.. أما الدولة المدنية فهي مبنية على فهم ونموذج آخر لها، يقوم على أساس القوانين الوضعية، بمعزل عن العقائد الدينية أوالإيديولوجية.