خالد الأسعد.. هل تنصفه السينما بعد الإهمال الحكومي؟

نوار عكاشة:

مرّت أعوام على استشهاد عالم الآثار السوري خالد الأسعد (1934 ، 2015) لم يلقَ فيها أي اهتمام حكومي يليق بتاريخه وعطاءاته وقيمته العلمية والوطنية، ورغم كل الأصوات التي عَلت مندّدة ومطالبة بإنصاف وتقدير هذا العالِم الذي كرّس عمره عالماً وحارساً لآثار بلده، ودفع حياته ثمناً لها، وما بين الإهمال والتجاهل؛ لاتزال الأسئلة مشرعة، وأقلها وأكثرها صداماً؛ سبب عدم تحصيله حتى الآن صفة (الشهيد)!

ليس غريباً ولا جديداً غفلة الجهات المعنية أو تغافلها عن تقدير وتكريم ثلة من عظماء هذا البلد، لكن المؤلم وبشدة؛ أن يُحرَم صفة الشهادة -في السجلات الرسمية- مَن صان كنوز الوطن وأُريق دمه ثمناً لذلك على يد أعتى وحوش البشرية.

للعالم الشهيد مسيرة طويلة مع التاريخ، ابتدأت منذ دراسته له في جامعة دمشق وتعلّمه اللغة الآرامية التي كان طليقاً بها بإنجاز نادر، واستمرت حتى رحيله عن عمر 81 عاماً.

قضى عقوداً من عمره بين الآثار باحثاً وموثقاً ومنقباً، محققاً إنجازات يطول الحديث عنها ويصعب تعدادها، فقد شغل عدّة مناصب في المديرية العامة للآثار والمتاحف، فَحقق عشرات الاكتشافات الأثرية والترميمات وإعادة البناء خلال عمله مديراً للآثار والمتاحف في تدمر، بين عامي 1963 و،2003 وعمل طوال تلك الفترة رئيساً أو مشاركاً في عدة بعثات أثرية أجنبية ووطنية ومشتركة، إضافة إلى مشاركته في العديد من معارض الآثار والمؤتمرات العلمية والندوات حول العالم، وللراحل أكثر من 40 مؤلفاً بين كتبٍ ومخطوطات ومجموعات الدراسة الأثرية التي تعد مرجعاً مهماً للدارسين والمهتمين.

نال العالم الشهيد خالد الأسعد أوسمة استحقاق من رؤساء دول فرنسا وتونس وبولونيا، إضافة إلى منحه بعد وفاته وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة من الرئيس السوري بشار الأسد، بموجب المرسوم التشريعي رقم 229 للعام 2015.

لكن ما يثير الاستغراب والاستنكار؛ تنصّل الحكومة السورية من تقديره بعد استشهاده، وعدم منحه صفة (الشهيد)، وهو الذي جرى إعدامه وتقطيعه بصورة وحشية من قبل تنظيم داعش الإرهابي يوم 18 آب عام ،2015 بعد ثلاثة أشهر من احتلاله لمدينة تدمر، بتهمة الارتداد عن الإسلام وعبادة الأصنام، لأنه رفض تسليمهم أسرار المدينة الأثرية ومكامن كنوزها ونفائسها.

وفي ظل هذا النكران؛ اندفع بعض الغيارى على الوطن لتخليد ذكرى الشهيد، فاتجه أصحاب الضمائر الحية من العاملين في المجال الفني نحو السينما لتوثيق حياته وصناعة أفلام تُحيي ذكراه حاضراً ومستقبلاً، مستلهمين من غناه المعرفي والمهني مواد لأفلامهم، فهل تنصفه السينما بعد الإهمال الحكومي؟

الحقيقة أنّه لا يصح تكريس السينما لإنصاف شخص، فالشاشة الكبيرة معنية بالفن الخالص ومعالجاتها البصرية للموضوع، الشك أساس صناعتها، وكسب إدراك المشاهد هدفها، وليس مطلوباً من صانعيها سوى الأمانة الفنية والمعلوماتية حين تناولهم سيرة شخصية حقيقية، وهو ما يُؤمل من الفيلمين القادمين عن حياة العالم الشهيد خالد الأسعد.

-الفيلم الوثائقي القصير (عاشق زنوبيا 2019- 25 د) للمخرج غسان شميط (1956)، إنتاج: المؤسسة العامة للسينما، الذي أصبح جاهزاً للعرض المرتقب في الشهر الرابع من العام الحالي ضمن مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة في دمشق.

يحكي الفيلم سيرة حياة العالم الشهيد واستشهاده، ويسلط الضوء على إنجازاته العظيمة في ميدان الآثار والبحوث والتقصي، كما يقدم شهادات حيّة بلسان من عاصره وعرفه ومنهم الدكتور علي القيّم، والدكتور محمود حمود، مدير عام الآثار والمتاحف، إضافة إلى شهادات من عائلته وأبنائه وإخوته، كما يروي وقائع خطفه وسجنه، ثم إعدامه بقطع الرأس في ساحة المتحف الوطني بتدمر على يد إرهابيي (داعش) الذين حاولوا أن يعرفوا منه خبايا آثار تدمر، لكنه اختار الموت على أن يكون عوناً لأعداء الحضارة والإنسانية.

-أما مشروع الفيلم الروائي الطويل (حارس الأعجوبة)، للكاتب حسن م يوسف، والمخرج نجدة أنزور، فقد كان الكاتب قد أعلن منذ مدة عن انتهائه من كتابة السيناريو المبدئي له، ويتناول فيه الشهر الأخير من حياة العالم قبيل استشهاده، مستخدماً أسلوب (الفلاش باك) لاستحضار أهم إنجازات ومفاصل حياة العالم التدمري، في مدة الفيلم التي ستتراوح بين 90 و120 دقيقة، وكعادة الكاتب المعروف؛ فإنّ للحب مكاناً حاضراً دوماً في أعماله مهما عَلا مستوى الألم في موضوعاته، وفي الفيلم القادم سيكون الحب قادراً على إحياء تمثال (حسناء تدمر) الذي اكتشفه العالم سابقاً، في طرح خيالي داعم للحكاية، ومستوحى من سحر الآثار والأساطير.

وتجدر الإشارة إلى أن حكومات وشخصيات مجتمعية من عدة دول أوربية قد كرمت خالد الأسعد بعد استشهاده، سواء بمعارض لاكتشافاته أو نصب تذكارية وتماثيل له أو مسابقات وجوائز في مجال الآثار حملت اسمه، وتُعدّ ايطاليا أكثرها تكريماً للراحل، فقد قامت، بعد استشهاده، لأول مرة في تاريخ إيطاليا الحديث بتنكيس الأعلام على جميع متاحفها حداداً لموت شخص أجنبي، كما أقامت لهُ مجمعاً أثرياً في مدينة (بيزا)، إضافة إلى نصب تذكاري له في حديقة (الصالحين) بمدينة (ميلانو)، وأعادت مدينة (أرونا) تسمية متحفها باسمه، كما أُطلق اسمه في ايطاليا على العشرات من القاعات والصالات في المتاحف والمراكز الثقافية والندوات العلمية تكريماً له.

العدد 1105 - 01/5/2024