حقوق الإنسان.. تلك البدعة الغريبة!

حسين خليفة:

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان- وثيقة تاريخية هامة في تاريخ حقوق الإنسان- صاغه ممثلون من مختلف الخلفيات القانونية والثقافية من جميع أنحاء العالم، واعتمدته الجمعية العامة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس في 10 كانون الأول 1948 بموجب القرار 217 بوصفه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كل الشعوب والأمم. وهو يحدد، وللمرة الأولى، حقوق الإنسان الأساسية التي يتعيّن حمايتها عالمياً. وترجمت تلك الحقوق إلى 500 لغة من لغات العالم.

المفارقة أن هذا الإعلان لا يتعدى ثلاثين مادة مع ديباجة هي جزء لا يتجزأ من الإعلان طبعاً، وهو بهذا أقل من بيانات أحزاب وحركات لا تملك من أمرها شيئاً ولا تؤخر ولا تقدم في مسيرة الحياة السياسية والمجتمعية في بلادها فضلاً عن العالم.

نص مؤلف من 1500 كلمة يختصر حقوق هذا الكائن الذي وجد على أرض ما بالمصادفة، لم يختر اسمه أو دينه أو قوميته، أو خرائط الموت التي تفصل بلاده عن بلاد تعيش حالات حروب مزمنة فيما بينها.

تختصر المادة الأولى جوهر الجوهر في فلسفة الإعلان: يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.

الحق في الحياة والحرية والعمل دون تمييز لأي سبب، ومنع التعذيب والإساءة للكرامة ومنع الرق والاستعباد وغيرها من مفردات زاهية لم تجد طريقها إلى النور إلاّ في أجزاء صغيرة من كرتنا التي يحاصرها دخان الحروب والأحقاد، فيما بقي العالم في غالبيته يترنّم بمصطلحات حقوق الإنسان والحرية والعدالة دون أن نجد لها أثراً في حياة الناس.

(لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً.) عندما تقرأ هذه العبارة من المادة 9 من الإعلان ـ تُصاب بهستيريا من الضحك على بلاد وقّعت هذا الإعلان وتُعتبر من مؤسسي الأمم المتحدة التي تبنّت الإعلان وأصبح قراراً دولياً يُلزم الدول التي وقّعت عليه على الأقل، بلاد يختفي فيها البشر دون معرفة مصائرهم أو أماكن وجودهم، يموت الآلاف تحت التعذيب دون أن يُحاسب الجناة، يقتل المخطوفون أمام الشاشات في مشاهد سينمائية مفزعة وبطرق تنتمي إلى العصور الغابرة وتتجاوزها عنفاً ووحشية.

الدساتير كُتبت لتوضع في الأدراج وتُحكم البلاد بقوانين الطوارئ والمحاكم الاستثنائية.

المجالس التي تُشرّع القوانين ليست منتخبة، وهي تأتمر بأمر السلطة التنفيذية التي تفعل ما يحلو لها دون حسيب أو رقيب، سوى رقابات شكلية استعراضية لا تُغني ولا تُثمر عن حقوق أصيلة.

لا أظن أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي مضى على إقراره من الأمم المتحدة سبعون عاماً قد استطاع أن يُغيّر كثيراً في مصائر البشر على هذا الكوكب الصغير، سوى أنه شكّل قاعدة قانونية للدفاع عن الضعفاء في وجه استبداد الأقوياء.

وهو لا يتطرّق طبعاً إلى حالات استبداد الدول القوية على الدول الضعيفة، فهو يهتم فقط بالفرد، وحقيقة أن الاهتمام بالفرد المواطن الإنسان هو أهم أساس لإقامة مجتمعات سليمة تفرز حكومات ملتزمة بالقوانين والشرائع، وبالتالي ينعكس ذلك إيجابياً على علاقات الدول فيما بينها، فلا يمكن لشعب حر أن يستعبد شعباً آخر، كما يقول المعلم ماركس.

ويمكن أن نسحب هذه الحقيقة إلى علاقات الأفراد، فنقول: لا يمكن لإنسان حر أن يستعبد أو يعتقل أو يعذب إنساناً آخر.

بلادنا مبتلاة أصلاً بعقائد سرمدية، وفي بلادنا لا يُعترَف أصلاً بأي شرعة أو قانون، وقد ظلت حالة الطوارئ سائدة خمسين عاماً، وفي ظل الحرب العمياء، التي مضى على اندلاعها سبع سنوات وأزيد، تعددت الجهات والجماعات المسلحة التي تستبيح، من بين ما تستبيح، البشر وحقوقهم، وخصوصاً ما حدّده الإعلان العالمي منذ سبعين عاماً.

الإعلان ما زال غريباً في بلادنا، ما زال بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، لا نار الآخرة كما يعتقد الكثيرون، بل نار هذه الدنيا الفانية.

لهذا نقول: سلاماً لحقوق الإنسان في ذكرى إعلانها الميمون، الإعلان الذي لم يصلنا منه إلاّ النص الجميل والمختصر، والأمل في أن يتحقق عندنا ولو جزئياً يوماً ما.

وكل عام والحقوق بخير، والإنسان أيضاً بخير.

العدد 1105 - 01/5/2024