إلى متى؟

إيناس ونوس:

كُنّا صغاراً يوم اندلعت انتفاضة أطفال الحجارة في ثمانينيات القرن الماضي، وما زلتُ أذكر كم كان يومها الحدث جللاً ومؤثّراً في الجميع من الكبير حتى الصغير. وقد شكَّلت الأحاديث والنقاشات التي كانت تدور على مدار السَّاعة، إضافة إلى نشرات الأخبار والبرامج السياسية حينذاك في وعينا ما يسمى بشعور التضامن مع هذا الشعب الذي حُرِم قسراً من أرضه وذكرياته وماضيه ومستقبله، فقد كان العالم برمته يتابع ما يجري، ولوهلة خُيِّل إلينا بوعينا الصغير أننا سنستيقظ صباح اليوم التالي لنجد أن فلسطين قد تحررت كلياً من نير الاحتلال البغيض.

إلاّ أن الصباحات تتالت، والانتفاضات توالت، وكبرنا ولم يتغير شيءٌ على أرض الواقع!

وها نحن أولاء اليوم في خضم انتفاضة أبناء غزة مجدداً، إلاّ أن الحال لم يعد كما كان عليه، فلا نشرات الأخبار ولا النِّقاشات ولا الرأي العام العالمي كما هو. إنهم ينتفضون وحيدين مجردين من كل شيء إلاّ من قوة الحياة بدواخلهم، فالقوانين الدولية ليست إلاّ حبراً على ورق مقارنةً بما يجري من أحداث على أرض الواقع، وقد فُرِّغ كل فعل من محتواه في ظل تخلي الجميع عن هؤلاء المشردين في الأرض أولاً، وثانياً لأن أصحاب القضية المعنيين أكثر من غيرهم بها لم تعد تعنيهم بعد أن وجدوا بلداناً بطولها وعرضها فتحت لهم أبوابها لاستقبالهم مواطنين من الدرجة الأولى مقابل تنازلهم عن حق العودة، وهم تماشوا مع الواقع.

إننا كسوريين عاشوا ما عاشوه أثناء وما بعد الحرب، لا سيما ملايين حالات التَّهجير والتَّشرُّد أدركنا وبشكلٍ مرير معنى الحرب والدمار، وماذا يعني أن تكون لاجئاً، ويمكننا أن نشعر ببعضٍ ممّا شعر به الفلسطينيون مع وجود اختلافات كثيرة لا مجال لحصرها بين الحالتين. إلاّ أن المتمسكين بالأرض من الجانبين والمتشبثين بالهوية الحقيقية لا يزالون يساندون بعضهم بعضاً علماً أن هذا التضامن لا يتوازى ولا يساوي ما حدث ولا يزال على الأرض. فحينما تجتمع قوى العالم كله ضدّ شعبٍ أعزل لتزيد من أزماته وتشرُّده وتشرذمه، وحين يبيع المسؤولون أبناءهم بأبخس الأثمان، وحينما يقف الإنسان وحيداً في مهب رياح الدمار والموت، لن يبقى من القضية إلاّ اسمها. وبعضٌ ممّن في الدَّاخل الذين لا يزالون يحاربون بسلاح الأمل.

بالرَّغم من كل هذا يبقى الأمل قائماً بأن تشرق الشمس ذات صباح وقد انتفض أصحاب الضمائر فعلاً لا قولاً، واستعادوا بعضاً من الكرامة المهدورة، فقد بات من الضَّرورة بمكان أن يتعدى التَّضامن مفهوم الجمل الإنشائية التي لا تصلح إلاّ للبروتوكولات والاجتماعات، ويخرج من هذا الإطار ليتحول إلى فعلٍ حقيقي ملموس ومعيش وإلاّ فإن الحلقة المفرغة ستبقى هي ذاتها.

فلتنتفضوا يا أصحاب الضمائر!

العدد 1105 - 01/5/2024