أَيّها النائمُ في السّحابِ الماطرِ.. سلاماً!

غياث رمزي الجرف:

(الأديب باسم عبدو يتقن كتابة القصة والرواية بروح تحمل المعاصرة، يتعمد الاستعارة بحرفة، وإيقاعه الهادئ يساعده على التقاط الصورة الجميلة في معالجة القصص بحبكة فنية)

د. عاطف البطرس

(الأديب باسم عبدو كوّن خطاً إبداعياً في قصصه ورواياته، وبالتالي لم يكن مبتذلاً، بل عاشقاً حقيقياً للحياة، ولكن بروح المثقف الواعي المتزن الذي يعرف ماذا يختار، وكيف يختار جملته وأدبه) _ رياض طبرة

-1 –

في صباح التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 2015، رحل عنّا، دونما أعذار، دونما إنذار، ودونما وداع، الأديب والكاتب والإعلامي والسياسي باسم عبدو (أبو شفيع). رحل، ونام في السحاب الماطر، وترك لنا، كي لا ننام: (ألوان قزحية، جسر الموت، احتراق الضباب، زهرة في الرمال، الأخمص الخشبي، وجه وقمر، الصفعة، دائرة الضوء، اعترافات، لا يموت الأقحوان، تورق ذاكرتي، ومئات الزوايا والمقالات النقدية والفكرية والأدبية التي نشرت في مختلف الصحف والمجلات السورية والعربية).

-2 –

لا أظنّ أن أحداً يتعاطى الأدب والثقافة والإعلام والسياسة لا يعرف (باسم عبدو/ أبو شفيع) ومسيرته الأدبية والإعلامية والسياسية النضالية، ومواقفه المبدئية الشجاعة من مختلف القضايا، ولا سيما من القضايا الوطنية والإنسانية.

إنّ (باسم عبدو) أديب، مثقف وناقد مرهف الحسّ، سياسي ملتزم، ورجل المبادئ والقيم، وهو صادق، نظيف، وعواطفه الإنسانية دافئة وحانية، لا تملك وأنت تستمع إليه، أو تتحدث معه، أو تقرأ له، إلا أن تحترمه وتقدّره، وتشدّ على يده، وتتعاطف معه تعاطفاً إنسانياً حاراً.

-3 –

لغة الأديب (باسم عبدو) السردية، روائياً وقصصياً، على وجه الإجمال، لغة شاعرية عبر نظرية تداخل الفنون أو الأجناس الأدبية، إلا أن ذلك لم يبعده، ولم يخرجه من الجوهري في إطار مقومات العملية السردية. وكان يرى أن التجريب أساسي في العملية الإبداعية كي يكتمل الإنتاج الأَدبي في الرواية والقصة والشعر. وهذا يعني أن يأتي الأديب دائماً بالأفضل، وأن يضيف إلى أي جنس إبداعي عناصر جديدة، تضفي على النص الجمال، وتجعله يزداد غنى وتطوراً.

-4 –

عندما قامت الحرب العدوانية الظلامية الصهيو- أمريكية المغطاة غربياً وإقليمياً، مع تواطؤ وتورّط سماسرة الدم العربي أنظمة وأطرافاً خارجية ومحلية، على سورية، الشّرْيان التاجي النابض في قلب كل وطني مخلص، وبدأت سورية تتعرّض لهجمات بربرية دموية باغية، مقرونة بآفة موصوفة تُعدّ من أخطر الآفات التي تهدّد وطننا والمنطقة، بل العالم بأسره، ألا وهي آفة الإرهاب و(الفكر) الوهابي التكفيري الخارج على جميع القيم والفِطْرَة الإنسانية الأزلية، الذي تخطّتْ جرائمه جرائم جنكيز خان والنازية والفاشية وتجاوزتها، والذي يستهدف وجود سورية، ورسالتها وموقفها الريادي، ودورها المركزي وهويتها العربية المقاومة، ووحدة أرضها وشعبها، فحلم التقسيم والتفتيت لا يزال يراود أحفاد سايكس -بيكو.

حينئذٍ وقف (باسم عبدو) ضد هذا الفكر الظلامي، الإقصائي، السكوني الخارج من الكهوف، وناهض هذا الطاعون الأسود الذي يَرْهَبُ النور وضوء النهار. وأهابَ الإنسان والأديب (باسم عبدو) بالأدباء وأصحاب الأقلام ألّا يكتفوا بمراقبة ما يجري (…) وألّا يصرخوا كثيراً دون تحقيق أية فائدة؛ فالصراخ في ظل ما يجري من عدوان على سورية، وتحالفات دولية وإقليمية، وهابية، إخوانية، ظلامية، لا يحقق ما تحتاجه سورية الحبيبة التي يحاول هؤلاء أن يذبحوها من الوريد إلى الوريد.

-5 –

هل يمكن الفصل بين الثقافي والسياسي؟ رصد المعطيات على أرض الواقع وحركة التاريخ يقول بلا مشبهة: الفصل بين الثقافي والسياسي لا يمكن أن يكون إلا فصلاً تعسفياً، وتقول المعطيات: هناك رباط محكم، ولا سيما في العصر الحديث، بين الثقافة والسياسة لا تنفصم عراه حتى على مستوى العلاقات الاجتماعيةّ. وتقول: كل أمة، كل دولة، وكل سلطة تسعى، ما استطاعت إليه سبيلاً، إلى إيجاد ثقافة تناسبها، وتلبي حاجاتها، وتكون في خدمة توجهاتها ومتطلباتها، وتعمل على تثبيت دعائمها، وترسيخ منطلقاتها ومفاهيمها، وتسويغ أفعالها، وصياغة مشروعاتها.

الأديب والمثقف باسم عبدو يرى، فيما يرى، أن على المثقف ألا يستكين وألا يرضخ للسياسي الذي عندما يُحرج، ويشعر بالفشل، يستخدم أكثر الأسلحة قوة؛ أسلحة القمع والاعتقال وكم الأفواه والتضييق، وتقييد الحريات المختلفة، ويحاول جذب صفٍّ من صفوف المثقفين إلى جانبه، وجعلهم بوقاً له، يرددون شعاراته، وينفذون طلباته، ويصفقون له، والمثقفون ليسوا على سوية واحدة، فهناك الإنتلجنسيا/ النخبة التي تمارس الفوقية والنرجسية على الآخرين، وتقوم بقمع ما تسميه (الفئات الدونية) وهي بذلك لا تختلف عن السياسي، فهي تستخدم نرجسيتها كنهج وليس على سبيل المواقف العابرة أو الطارئة. ووصل (عبدو) إلى النتيجة الآتية: على السياسي أن يكون مثقفاً، وعلى المثقف أن يكون سياسياً، كي تنضج المعادلة ويتوازن طرفاها مثل كفتي الميزان العادل في علاقة ديالكتيكية لا غبار عليها. مع الإشارة إلى أن كل ما قيل، وكل الدراسات والأبحاث التي نشرت عن ضرورة التغيير الثقافي لم تُجدِ نفعاً (..؟) ولم ينتج عنها سوى زيادة التوتر بين السياسة والثقافة، أو بين المثقف والسياسي. فالسياسي (دائماً وأبداً) يحاول أن يكرّس الجهود الفردية والجمعية لاستمرار الهيمنة على المثقفين، والعمل تحت شعار مركزي بعنوان (تفوّق السياسة على الثقافة)، واعتماد السياسة المتسلّطة على الثقافة وإعطاء المثقفين المسكنات وتخديرهم بالشعارات وترويضهم من قبل مربّين سياسيين محنّكين وأصحاب خبرات تاريخية.

-6 –

وبعد، إذا كان الموت الماديّ الذي يلحق الكائن البشري – على حدّ تعبير عبد الرحمن منيف – يغيّبه كفردٍ عن الأنظار، فإنّ ما يتركه هذا الكائن، خاصة في إطار الفنّ والفكر والأدب، يبقى وينتقل إلى الأجيال اللاحقة، ليساهم في تكوين الذاكرة وفي تعزيزها.

وبعد.. وبعد.. لا تستطيع روحي يا أبا شفيع، في الذكرى الثالثة لرحيلك المادي الوجيع، إلا أن تكون في أوج اشتعالها، ولا تستطيع نفسي إلا أن تهمي وتذوب حنيناً، وقلبي لا يستطيع إلا أن يسيل حباً وحزناً إنسانياً جليلاً يليق بكَ.

أبا شفيع! صحيح أني لا أراك بعيني، ولكنّي، في كلّ يوم، ألتفتُ إليكَ بقلبي وألقاك (فرؤية العين رُؤية.. ورؤية القلب لقاء).

العدد 1104 - 24/4/2024