هل تحقق أوربا تطلعاتها لأن تصبح قطباً عالمياً؟

د. صياح عزام:

ليس من المستغرب أن تعمل دول أوربا جاهدة لتحرير رقبتها من نير الهيمنة الأمريكية التي لم تكن لتكون لولا هزيمة ألمانيا، وبُعد أمريكا الجغرافي عما ألحقته الحرب العالمية الثانية بأوربا من ويلات ودمار.

في هذا السياق تأتي الإعلانات الفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها الداعية لتحرير أوربا من المظلة النووية الأمريكية، فقد أصبحت تشعر بأنها عبء ثقيل عليها.

جدير بالذكر أن خلافات الدول الأوربية مع إدارة الرئيس الأمريكي ترامب لم تعد خافية على أحد، وهي تتجسد في انسحاب الولايات المتحدة من عدد من المنظمات والهيئات والاتفاقات الدولية المشتركة، وفي ضغط الإنفاق على برامج مشتركة بل إيقافه، وأهمها تغطية تكاليف بقاء وتواصل حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن قيام الحكومة الأمريكية بفرض رسوم جمركية عالية على وارداتها من دول الاتحاد الأوربي، إضافة إلى إجراءات أخرى في سياق ما أطلق عليها (الحرب التجارية).

والأخطر من ذلك تخوف زعماء أوربا من مطالبة ترامب بمقابل نقدي لما أتاحته المظلة النووية الأمريكية من حماية لأوربا الغربية طوال عقود الحرب الباردة، وبمقابل الوجود العسكري الأمريكي حتى اللحظة على حدود الاتحاد السوفييتي السابق.

إلى جانب ذلك يتحدث ترامب باستمرار كما تحدث مسؤولون أمريكيون سابقون بازدراء عن أوربا (العتيقة) ويصفونها ب(القارة العجوز) وغير ذلك، ولا يقيمون أي وزن للمصالح الأوربية.

ويرى العديد من المحللين السياسيين أن دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون التي أطلقها مؤخراً في لقاء مع إذاعة أوربا 1 الفرنسية، عندما أكد أهمية وضرورة إنشاء جيش أوربي موحد، لضمان عدم الاقتتال الأوربي مرة ثانية، ولحماية المصالح الأوربية والأمن الأوربي، بعيداً عن التسلط الأمريكي الذي كشفه استعلاء ترامب عندما رفع شعار (أمريكا أولاً) دون اعتبار للحليف الأوربي، وعندما انسحبت بلاده من اتفاقية المناخ التي تعتبر فرنسا من أهم المدافعين عنها، وعندما انسحب ترامب قبل أسابيع من معاهدة للحد من أسلحة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى ومن الاتفاق النووي مع إيران رغم تمسك أوربا به.

هذا وهناك حوافز أخرى تدفع إلى هذا الخيار الأوربي (أي تأسيس أمن أوربي مستقل عن الحليف الأمريكي) الذي تداعت الثقة في جديته للدفاع عن أوربا، منها:

– تنامي النزعة الاستقلالية كقطب مستقل، أسوة بأمريكا وروسيا والصين، ذلك أنه يتعذر الوصول إلى هذا الهدف، إذا لم تتخلص أوربا من التبعية للولايات المتحدة، وإذا لم تمتلك قدراتها العسكرية الخاصة القادرة على الردع والمناسبة.

– الحاجة إلى سد الثغرات الأمنية أمام تصاعد نشاط الجماعات الإرهابية، خاصة إذا عاد الإرهابيون من أصول أوربية إلى بلدانهم.

– إن العديد من قادة الاتحاد الأوربي، خاصة (ميركل وماكرون) وغيرهما، أصبحوا يشعرون بأنهم لا يمكن أن يتركوا مستقبل شعوبهم ودولهم على (كف عفريت)، (عفريت) يصعب التكهن بما سيفعله في أية لحظة.

– انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي، إذ إنها كانت دائماً ذيلاً للولايات المتحدة، وتخشى فكرة أن إعطاء أي دور عسكري للاتحاد الأوربي سيقوض حلف الناتو، وبالتالي باتت الفرصة مواتية لألمانيا وفرنسا لإعادة إحياء القدرات العسكرية الأوربية المستقلة.

وقد اعتبر ترامب أن دعوة الرئيس ماكرون لإنشاء جيش أوربي موحد (أمراً مهيناً)، وأشار في تغريدة له أنه يترتب على أوربا أولاً دفع مساهماتها في حلف شمال الأطلسي! ما يعكس احتقاره لهذا الطرح الفرنسي ورغبته في إبقاء دول الاتحاد الأوربي تابعة لواشنطن، بينما رحب الرئيس الروسي بهذا الطرح من قبل ماركون، واعتبره أمراً يسهم في التقليل من الوزن الأمريكي في العالم، ويدعم التعددية القطبية.

 

الخلاصة

إن إشارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ضرورة أن تقوم أوربا بحماية نفسها بنفسها، وأن تكون كتلة موحدة ذات قدرات عسكرية مستقلة لمواجهة أي تهديد خارجي لدولها، ليست مستغربة الآن، خاصة في ظل وجود إدارة أمريكية لا تحترم أحداً، ولا تقيم أي وزن لحليف أو لصديق، بل لها مبرراتها المنطقية الكثيرة، إذ لا يكفي أن يبقى الاتحاد الأوربي قائماً على ركيزة واحدة، (ركيزة العملة الموحدة- اليورو)، بل يحتاج إلى ركيزة ثانية مهمة هي (الركيزة العسكرية) حتى يصبح هذا الاتحاد قوياً وفاعلاً.

العدد 1105 - 01/5/2024