المجتمع المدني في سورية (1-2)

صفوان داؤد:

(المجتمع المدني) من حيث المبداً هو صفة حاضرة في (الجماعة)، وإن كانت متفاوتة بشدّتها. وهي تعني اهتمام الكائن الفرد بمصلحة الجماعة التي ينتمي إليها، وتأثره بما قد يقع عليها أو على جزء منها من خطر، ما يولّد عنده الشعور بالمسؤولية لمحاولة دفع هذا الخطر. وفي المجتمعات البشرية، ومع تطور وسائل الاتصال والتنظيم، ارتبط (المجتمع المدني) بتطور شكل الدولة وعلاقتها مع الفرد في فضاءه العام والخاص، وقد تناولها الفكر الإنساني بدءاً من أرسطو وافلاطون إلى كانط وماركس وغرامشي. ومن المعروف أن هذه العلاقة تعرّضت للصدام العنفي أو السلمي عبر العصور التاريخية، وهي وإن وصلت إلى مرحلة التوازن في بعض المجتمعات، إلا أنها مازالت غير ناضجة، أو غير موجودة في مجتمعات أخرى.

على العموم نورد هنا تعريف (المجتمع المدني) حسب ما ورد لدى البنك الدولي بأنه: (مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجود في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية).

بالعودة إلى سورية، يشير عدد من الباحثين السوريين إلى أن ملامح (المجتمع المدني) قد ظهرت في سورية خلال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، واستمرت حتى نهاية الخمسينات إبان فترة الديمقراطية السياسية اليتيمة في سورية. ويذهب بعض الباحثين إلى أبعد من ذلك، على سبيل المثال، الباحثة حسيبة عبد الرحمن ترى أن المجتمع المدني في سورية هو أقدم من ذلك، ويعود إلى سورية العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وظهر مع الجماعات الأهلية التي كان لها ملامح (مدنية) أولية، ارتبطت مع (النهضة العربية) والتأثر الكبير بالغرب الذي بدأ يزداد تأثيره بقوة كبيرة في المشرق عبر الإكليروس المسيحي في كل من سورية ولبنان، وما رافق هذا التأثير من تشكيل لمنظمات أهلية ذات طابع سياسي أو ثقافي اجتماعي. لكن في الحقيقة تبقى فرضية الباحثة عبد الرحمن مجرد وجهة نظر ومجتزأة.

إذا انطلقنا من صفات (المجتمع المدني) التي تتمحور على ثلاثة مبادئ: الاستقلالية عن السلطة، والتفاعلية الذاتية لأفرادها، والعقد الاجتماعي (المنفتح) الناظم له، نجد أن المجتمع السوري بعيد نسبياً عن أيٍّ من هذه المفاهيم، وهي مبهمة في التصورات المدنية العامة للحكومة السورية التي تعتبر أن (المجتمع المدني) في سورية لا يتحقق إلا عبر مسار تدريجي من التغييرات الجزئية، لبعض النواحي، تحديداً الاقتصادية؟! مُختزلاً بذلك مفهوم الإصلاح من كونه إصلاحاً يشمل جميع نواحي الحياة في مجتمع محكوم ببدائيات دينية وتقليدية متجذرة، إلى (إصلاح) اقتصادي وإداري فقط.

في الحقيقة، منذ عقدين من الزمن على الأقل، لم يُعبّر الإصلاح في سورية يوماً عن إصلاح مدني، ولم يكن سوى (ميك آب) لواقع شديد البؤس. فمن الصعوبة تفسير التنمية في سورية وفق المفهوم الاقتصادي وحده الذي سُمِّي وقتذاك (اقتصاد السوق الاجتماعي)، وترك الاعتبارات غير الاقتصادية أو تجاهلها، فالاقتصاد، بحسب المفكر جيرالد روبرت: (ليس جهازاً أو نظاماً آلياً، والقوى الاقتصادية لا تعمل بوصفها قوى طبيعية، بل يجب أن تُفهم ضمن الإطار الاجتماعي والثقافي لها، فالعوامل السياسية والثقافية والاجتماعية تساهم بدور مهم وكبير ومباشر في التنمية).

إن دراسة مقارنة بين المجتمع السوري ومجتمعات أخرى كانت تقع تحت ظروف مشابهة تدل أن الوضع سلبي وأكثر من ذلك يزداد قتامة. ومن باب المقارنة سورية التي نالت استقلالها في الفترة نفسها تقريباً التي خرجت منها اليابان من الحرب العالمية الثانية ببنية تحتية مدمرة بالكامل ومجتمع كان محكوماً بنوع من الفاشية القومية وعبادة الامبراطور، ثم بمقارنة سورية في أول التسعينات -عقب انهيار الاتحاد السوفياتي- مع دولة استقلت عن هذا الاتحاد مثل كازخستان، نجد أن (المجتمع المدني) في سورية لم يتبلور بشكل يستحق أن يسمى مجتمعاً مدنياً كما هو لدى مجتمعي اليابان كازخستان. ويقول الباحث شاهر جوهر في هذا السياق إنه (لا يمكن أن ننكر أن ارتفاع نسبة الأمية وتزايد معدلات البطالة والهجرة القسرية والمستمرة للنخب والأدمغة قد لعبت دوراً مهماً في تغييب دور هذه المنظمات عن الساحة، ومردّ هذه المرضيّة المفرطة الحساسية تجاه منظمات المجتمع المدني هي خشية الحكومات السورية المتعاقبة أن تقوم هذه المنظمات بنقل حالة القصور والعجز الذي يعتري سياساتها للرأي العام، وخشية أن تكون واجهة سرية للأحزاب تعمل في الخفاء). هذا يطرح حقيقة لا يمكن التغاضي عنها، وهي أنه في ظل حكم الحزب الواحد الذي طغى على الحياة السياسية السورية لعقود عدة، وارتباط الحياة العامة بشكل كامل بالمؤسسات المحكومة، هي أيضاً، بإلزامية أن تكون هذه الكوادر أو على الأقل المناصب العليا منها من لون سياسي واحد، فقد هيمنت الدولة ببنيتها الإيديولوجية وبمفهومها القانوني الذي يحوي ضمناً قيمة عنفية أشار إليها جاك دريدا بـ (الكامن العنفي للقانون)، وأطّرت المجتمع السوري بقوة كبيرة، فمسخت هيئات المجتمع المدني المحلي إلى أشكال بدائية أو غير واضحة المعالم ينتصب على كراسي قياداتها أشخاص معبّؤون إيديولوجياً معظمهم انتهازيون.

العدد 1104 - 24/4/2024